الشهادة الأولى / تغير اسمي من نور إلى رقم تسعة
لو كان موتي اختياري ما ترددت، لو استطعت محو ذاكرتي لفعلت، ومع كل ليلة أغمض فيها عيني، تعاودني كوابيسي التي عشتها حقيقة، وتأبى مغادرتي حتى في يقظتي؛
في زمن مضى كنت وطفلي الإثنين وزوجي نعيش مع أهله، المكوّنة أسرتهم من عمي وزوجته وابنتيه وابنه؛
كنت حاملاً ببنت عندما بدأت الثورة، وكان زوجي يشارك سلمياً في المظاهرات وكنت مع نساء الحارة نؤازرهم الهتاف من فوق أسطحة المنازل، حتى إذا ما باشر النظام اقتحامه المنطقة وهجومه على العزل تطوع زوجي مثل باقي الرجال لحمل السلاح دفاعاً عن الأهالي؛
وحكايتي بدأت مع تعميم اسم زوجي على الحواجز ضمن قوائم المطلوبين، داهموا بيتنا أول مرة فلم يجدوه، ثم جاؤوا مرة ثانية حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا كنا جالسين أنا وزوجي مع بعض أفراد عائلته في إحدى غرف البيت؛
وإذ بطرق على الباب لأحد عساكر حاجز النظام المتموضع أمام بيتنا في حمص، سمى نفسه أبا محمود طلب ماء للشرب، ثم سأل قريبنا الذي فتح له الباب عن اسمه؟
قال: أنا اسمي فادي.
فسأله مع من تعيش هنا؟
فعدد له أسماء الرجال من أهل زوجي ومن بينهم اسم زوجي عمر. فتأكد العسكري أن زوجي في البيت.
غاب عشر دقائق ثم عاد مع دورية مكوّنة من ضابط وملازم وخمسة عساكر طوقوا بيتنا بأسلحتهم الروسية وبدأوا بضرب الرصاص في السماء ثم دخلوا واعتقلوا زوجي، على أنه مطلوب لأحد الفروع الأمنية؛
والد زوجي المسكين ما ترك مكاناً إلا وقصده في رحلة بحثه عن ابنه دونما جدوى، وأخوه تعرّف على ضابط أمن، أخبره أن زوجي معتقل في الفرع لديهم؛
لم نتمكن من رؤيته، فالزيارات ممنوعة، ولم نستطع التحقق من وجوده، فلا أسماء معلنة لديهم، حتى بات جل همنا معرفة إذا ما كان على قيد الحياة.
ثم وبعد ثلاثة أشهر أمضيناها في القلق واللوعة، شاءت الأقدار أن يعود زوجي إلينا، بسبب خطأ وقع منهم في الأسماء؛
في اليوم التالي جاءت دورية أمنية وداهمت بيتنا بحثاً عنه، ومن أجل حماية العائلة أنكرنا رؤيته، وقلنا لهم بأنه لا يزال عندكم، ومن أجل استدراك خطأهم بإخراجه بدلا من شخص آخر، تكررت مداهماتهم منزلنا؛
وزوجي منذ خروجه هرب مختبئاً في مناطق بعيدة عن عيونهم، وهم لشهرين كاملين مستمرون في مداهمة وتفتيش منزلنا بالليل والنهار، بمعدل ثلاث مرات في اليوم الواحد، يدفعون الباب فجأة بأرجلهم دونما إذن، وبطريقة همجية، لا يكترثون لحرمة البيت ومن فيه من نساء وأطفال؛
يدخلون دونما شفقة وشتيمتنا واحتقار ديننا لا تغادر ألسنتهم وابسط ما يرددونه ” أنتوا ……. . وتخفوا تحت حجابكم وعباءاتكم أخلاقكم الوسخة “
عند دخولهم يبدأ جسمي بالارتجاف ويصفر وجهي حتى أنني لا أستطيع الحراك من مكاني، أحاول جاهدة ضبط نفسي كي لا يروا خوفي، وعلى هذه الحال بعد أيام وضعت حملي، بولادة ابنتي بعيدة عن عيون والدها وحضنه؛
بعد فترة علمنا أن جميع أسماءنا مُعمّمة بين المطلوبين على الحواجز، وقرر والد زوجي الخروج بنا إلى لبنان، مستخدماً قيود مدنية بأسماء مزورة، وفي الصباح الباكر خرجنا بباص صغير، محملين معنا السجاد وأغراض البيت البسيطة وعربات الأطفال والحقائب، وعند أحد الحواجز أوقفونا، علمنا لاحقاً أنهم علموا بأمرنا عن طريق هاني – ابن عم زوجي – والذي كان بينه وبين زوجي مشاكل وثارات استفاد منها كعادته النظام ووظفها ليجعل منه مخبراً علينا، وما إن علم هاني بأمرنا عن طريق والدته، حتى أوصل إخبارية للأمن بأننا سنخرج تهريباً بقيود مزورة؛
وعلى الحاجز سألوا السائق: هل أنت عمار ؟
قال: نعم.
سألوه هل معك شخص يدعى سمير ومعه عائلته؟
قال: نعم، هم يجلسون في الخلف.
كان الضابط ذو وجه بشع شنيع لا أنساه ما حييت، جاء إلى باب الباص الخلفي فسحب الباب بقوة لفتحه من شدة غضبه وعزم يده انكسر زجاج الباب، كانت أخت زوجي تجلس قريبا من الباب فشدها من حجابها الذي خرج بيده فانكشف شعرها ثم شدها بقوة إلى الخارج وسقطت على الأرض، بدأ يصرخ بها أنت يا…….. يااا….. أنت التي لم تدعينا ننام ليلاً ولا نهاراً، واستمر بشتمها وهو يجر جسدها على الأرض وهي تضرب نفسها وتقول لهم: لست أنا لست أنا
قال: كيف لست أنت يا ………..؟ ألست زوجة عمر ؟
قالت مشيرة إلى الحافلة لست أنا، هي في الداخل
ركلها بحذائه ليرميها بعيداً عن طريقه، ثم اتجه نحونا، أمسكني بذات الطريقة من حجابي فكشف شعري وجرّ ركبتي على الأرض من الحافلة إلى داخل بناء الحاجز وابنتي التي لم تتجاوز الشهرين لاتزال في حضني.
أنزلوا حماتي وباقي البنات والسائق وأدخلوهم إلى الداخل، جاءت حماتي وأخذت من حضني طفلتي وأنا أترجاها ألا تأخذها عسى أن يعطفوا علي ويرحموني لأجلها، وإن لم يكن في قلوبهم شفقة فقد يزعجهم صوت بكائها ويتركونني بسببه، كنت متعلقة بأي شيء من شدة خوفي، لكنها أخذتها وخرجت بها إلى خارج ممر البناء حيث البقية ينتظرون؛
بدأ بضربي بالإبراهيمي أنبوب حديدي ملفوف ببلاستيك أخضر اللون يشبه أنابيب التمديد الصحي على ظهري حتى فقدت الإحساس به، وهو يضرب بقسوة ويقول: والله سأشوه لك وجهك والله سأفعل بك كذا وكذا ………) ثم ضربني على ساعدي فانشق جلدي، ومن شدة خوفي على وجهي حميته بيدي فكسر الابراهيمي سني وشق فمي ويداي اللتين لا تزالان حتى الآن تحملان آثار تلك الجروح، أمسك برأسي وبدأ بكل حقد يضربه بالحائط وهو يسب ويشتم ويتوعد الآن سترون أنتم السنة ماذا سيحدث بكم، سأجعل منك عبرة لهم جميعاً.
كنت بنصف وعيي، وهو يأمر ضابطاً آخر برتبة ملازم أن يصورني وينشر الصور مع باقي العساكر، ثم ربط يدي على النافذة وشق معطفي وملابسي وأخذ يغتصبني ويضربني بالإبراهيمي والملازم يصوّر ما يحدث عندما انتهى هو أمر الملازم باغتصابي وقام هو بتصويري، كان جسدي كله يؤلمني ولا أشعر به، لا أعلم أي جزء من جسدي يؤلمني رأسي وظهري ورجلاي أو يداي، لا أعلم كيف أصف شعوري في ذلك اليوم، لم أعد أهتم بما يجري لي قدر اهتمامي بالفيديو الذي صوروه ويهددونني بنشره؛
كان يقول: “سننشره لنري العالم أنكن أنتن المسلمات عاهرات ………. وأن هذه أفعالكن ومن طبيعتكن” لا أستطيع وصف حجم الحقد الذي بداخلهم تجاهي.
خرج الضابط وذهب إلى غرفة التحقيق التي فيها عمي، ثم خرج الملازم وأقفل الباب، كان ممنوعاً دخول أي شخص إلى الغرفة التي كنت أتواجد فيها، كنت بحالة يرثى لها لم أكن أعلم ما هو مصيري وماذا ينتظرني كنت أسمع صوت التعذيب الذي كان يتلقاه عمي في الغرفة المجاورة، ولكن لم أكن أفكر بأحد غير أولادي، كان أكثر ما يخيفني هو مصير أولادي، كنت أفكر هل سيقتلونهم؟ أم سيعذبونهم؟ كنت أفكر بهم أكثر من نفسي، أموت أو أعيش لا فرق، لكني كنت خائفة على مصيرهم، بعدما رأيت العساكر أسوأ من الوحوش.
عاد الضابط وربط يدي واقتادني إلى غرفة مجاورة، كأنها غرفة تحقيق من الباطون فيها ضوء أبيض خافت وجدرانها ملطخة بالدماء، فيها كرسي خشبي قديم وطاولة خشبية قديمة ملطخة بالدماء أيضاً، بدأ بسؤالي عن زوجي ومكانه قال لي: اعترفي وإلا سيحدث لك أفظع مما حدث بك قبل قليل في الغرفة. قلت له: لو كنت أعلم مكان زوجي لكنت طلبت منه أن يرسل لي مصروفاً للأولاد، أنا لا أقابله ولا أعلم أين هو.
قال: لا، أنت كنت ترينه وتقابلينه في بيت ابن عمه،
(حقاً كنت قد التقيت زوجي مرةً في بيت سامي ابن عمه، وما لم أكن أعلمه أنهم قبل يومين اعتقلوا سامي، وأنه اختفى نهائياً حتى وجد الأهالي ذات صباح جثته ممزقة وملقاة على الطريق، فقط لأنه أدخل زوجي إلى بيته وجمعه بعائلته وأولاده)
ثم شغل الضابط مسجل صوت صغير فسمعت صوتي وصوت زوجي ونحن نتحدث على الهاتف الثابت لبيت عمي، لم نكن نعلم أن الهاتف مراقب، كان يقول لي فيه رتبوا أمركم كي تخرجوا من هناك عندما تخرجون سترتاحين أنت والأولاد واحذري أن تخبروا أحداً بأمر خروجكم …. كل ذلك أسمعني إياه حتى آخر التسجيل عندما انتهى الاتصال أطفأ المسجل وقال لي: أتكذبين علينا يا كذا وكذا؟ من هذا الذي كنت تتحدثين معه؟ أعشيقك هذا ؟! وهذه البنت أليست ابنتك ؟! هل هي ابنة عشيقك؟!
كان الكلام قاسياً كان يرمي بشتائمه التي لا تطاق ولا توصف، لم أرد بأية كلمة فقط كنت أرتجف خوفاً، لم تخرج من فمي إلا كلمتان ما ذنبي أنا وأولادي إن كان هو مع الجيش الحر ؟ هذا فقط ما نطق به فمي فأمسك الكرباج وأخذ يضربني فيه ثم جرني إلى الغرفة مرة ثانية دون أية رحمة.
كنت أعذب بغرفة وعمي بغرفة أخرى، وصوت كل صفعة يتلقاها ترن في أذني، كانوا يقولون له أنت تعرف مكان ابنك وستعترف به
يقول عمي أنا سأعترف بما أعلمه هو كان يقابل زوجته وكان يعطيها المصروف، أنا ليس لي ذنب، أنا رجل كبير بالسن، لماذا تعتقلوني أنا لا أفيدكم بشيء. كان بعد كل جملة يقولها يضربونه ويهينونه ويشتمونه. قالوا له: كنتُك تقول إنها لم تكن تلتقي به. يرد عليهم لا هي كانت تلتقي به وكانت تكلمه. ربما من شدة التعذيب اعترف بكل شيء وهو كبير السن في الخامسة والستين من عمره لم يحتمل الضرب، في الوقت الذي كنت أنا أنكر كل شيء.
جلبوا عمي إلى غرفتي لمواجهتي، كانت معالم وجهه قد تغيرت وعيناه متورمتان بشدة، فقال لي: يا ابنتي عندما تخرجين لا تتحدثين معه، لا تقابليه، تبرّي منه قولي له طلقني، أنا كان لي ابن ولم أعد أعترف به، الله يغضب عليه.
هو قال ذلك وأنا كدت أفقد عقلي وجسدي يهتز ويرتجف بشدة، فالتفت إلى الضابط وقال: هكذا إذاً من شدة الخوف ترتجفين نحن سنجعلك ترتجفين بحق؛
زادوا علي بالضرب والتعذيب وكأنهم بدأوا من جديد، ضربني الضابط كثيراً على وجهي وأذني حتى ثقب غشاء الطبل لدي، فقدت من وقتها السمع بأذني اليمنى نهائياً، وبت أعاني من دوار مستمر ؛
ثم وبعد ذلك أخرجوني أنا وعمي من غرفة التحقيق، فأخلوا سبيل عمي وبناته وزوجة عمي – التي أغمي عليها ما يقارب الساعتين – قالوا لهم أنتم لا دخل لكم اقتربت مني زوجة عمي لتأخذ أولادي وهي تقول ما ذنب الأطفال دعيني أخذهم معي، لكن الضابط رفض وهددها بأنه سيطلق عليهم الرصاص أمام عينيها، فقلت: اتركيهم، نعيش معاً أو نموت معاً.
سخر الضابط قائلاً: كفاكما جدالاً ليس القرار عندكما، إن أردت سأقتلهم الآن وأمام عيونكم، وضعوا البندقيات الروسية برأسي ورؤوس أولادي وقاموا بتسجيل فيديو، يهددون فيه زوجي بأنه إن لم يسلّم نفسه فوراً سيقومون بضرب النار علينا، تمنيت من شدة ألمي وخوفي من بقائي مع أولادي تحت رحمتهم، أن يفتحوا النار علينا ويقتلونا جميعا؛
بعد ذلك علق في رقبتي ورقة مربوطة بخيط كان قد كتب فيها رقم 9 ، من حينها لم يعد اسمي نور بل رقم 9، صعدوا بنا في ممشى مزدحم برجال يتعرضون لأبشع التعذيب، لمحتهم يطفئون السيجار العريض بوجه وجبين أحدهم، وآخر كانوا ينتفون بأيديهم شعر صدره كي يعترف، ورجل مربوط من ذراعيه – مجرداً من جميع ملابسه – وهم يضربونه بالإبراهيمي، ضربات قوية تشق جسده؛
مشاهد فظيعة أخرى لا يمكن أن أنساها على هذا الممشى، على جانبه تتوزع غرف كثيرة، وكما ترمى بضاعة تالفة ألقوا بي مع أولادي في أحدها، وفيها ما يقارب 50 امرأة، يتكومون في مساحة لا تتجاوز 12 متراً ، كنت خجلة جداً من مظهري ومما تعرضت له معطفي ممزق بنطالي مشقوق، وساعدي ينزف دماً، لم يكن في هذه الغرفة أطفال سوى أطفالي، فاقتربت مني معتقلة كبيرة بالسن تدعى أم بكر واحتضنتني، بدأت بمواساتي وهي تخاطبني يا ابنتي، ثم احتضنت ابنتي المتعبة من شدة البكاء، وأجلستني بجانبها وهي تسألني ماذا حل بك؟ قلت لها ضربوني وعذبوني بالإبراهيمي؛
قالت لي: هل اعتدوا عليك؟
خجلت أن أقول لها ما حل بي وبدأت بالبكاء.
فقالت لي: اعتبريني أماً لك هنا وقولي لي ماحل بك.
فبدأت برواية كل ما جرى لي، فأخذت تواسيني وتشرح لي أن كل المعتقلات الباقيات حلّ بهن ماحل بي، وبعضهن حل بهن أسوأ مما حلّ بي، على عكس ماكنت أظنه أنني الوحيدة التي تم اغتصابها وفعلوا بها ما فعلوا ، قالت لي إذا كنت أنت فقط ضابط وملازم، منهن من اغتصبت من قبل العساكر بل ومن قبل أكثر من واحد حتى تعود منهكة لا تقوى على الحراك، كانت أم بكر كلما ذكرت اسم أحد من المعتقلات أخفضت صوتها، تذكرت كلام العسكري لم يعد لك اسم لدينا، فقط رقم أنت الرقم (9). فهمت من أم بكر أن الهدف من هذه الأرقام ألا يتعرف أحد من المعتقلين أو المعتقلات على الآخر خلال المناداة، وخاصة إذا ما كان هناك أقرباء أو جيران أو أصدقاء في غرف أخرى؛
لم يتركوا جراحي ترتاح كثيراً ، ففي اليوم الأول أخذوني أربع مرات ليضربوني ويعذبوني بذات الوحشية، حتى أولادي لم يسلموا من ضربهم خاصة عندما يبكون النوم حرمان آخر بسبب ضيق المساحة، فلكل واحدة منا بلاطتان فقط من الغرفة، لا يمكننا الاستلقاء بأجسادنا على الأرض، ونقضي الليل كما النهار جلوسا، في الليل تزداد المعاناة، من جهة صراخ الرجال والنساء تحت التعذيب وبكاؤهم لا يدعنا نغفو لحظةً واحدة، ومن جهة أخرى بكاء أولادي الخائفين وبكاء رضيعتي الصغيرة من شدة الجوع والبرد، ابني الكبير في جمود وابنتي الوسطى لم تبرح الخوف والسكوت، الذعر في عينيها ولا تبرح ملاصقتي متمسكة بي، وكلما نظرت إلى أطفالي تمنيت أن يريحهم الموت معي من هذا العذاب؛
ليوم لم نكن قد تناولنا شيئاً من الطعام، وحينما ازداد بكاء ولدي تضرعاً من الجوع، أخرجت أم بكر من بين ملابسها قطعة خبز يابسة كانت قد خبّأتها وأعطتها له فالتهمها رغم قساوتها؛
ومع صباح اليوم التالي أخرجوني من جديد إلى الضابط للتعذيب، في هذه الأثناء كانوا قد جلبوا وجبة طعام إلى غرفة معتقلنا ولم أتناول منها شيئاً، يكررون ذلك مرتين في اليوم، والوجبة تتكون من حبتين زيتون مر وقطع بطاطا مسلوقة تشبه من قسوتها الحجر وحبة بندورة ورغيف خبز يابس مرة واحد كل أسبوع يقدمون لنا قطعة من الحلاوة؛
شدة الجوع تدفع الجميع للأكل، وأولادي يتناولون هذا الطعام رغم أنهم لا يتقبلونه، صراخ صغيري بسبب عدم كفاية الوجبة له، دفعني للطلب من أم بكر أن تعطيني شقفة الخبر التي اعتادت أن تدخرها، خجلت من طلبي عندها أخبرتني أنها تخبئها لأنها مريضة سكر وأن جسدها إذا جاعت يرتجف وتفقد قواها؛
في منتصف تلك الليلة، علا صراخ رجال ونساء، وصوت رجل مقهور يكسر بنحيبه الصمت بين جلسات التعذيب، دفعني فضولي للسؤال عما يجري، وعلمت حينها من المعتقلات أن الاغتصاب لا يطال فقط النساء بل الرجال أيضاً بدأت أفكر من جديد بمصيري ومصير أولادي هنا ماذا سيحل بي وبهم، لم أذق طعم النوم طوال الليل؛
كلما بكى أبني يدخل العسكري كالوحش ويضربه على رأسه حتى يسكت، وابنتي تصاب بارتجاف في جسدها كلما دخل، طفلتي الصغيرة لا تشبع ويشتد بكاؤها بين الحين والآخر فيدخل ويصرخ بي قائلاً: أسكتيها وإلا سنقوم بإسكاتك أنت وهي على طريقتنا، كان كلما دخل أحدهم يكاد قلبي يتوقف، فأقف وأبدأ بالدوران بها في مكاني الضيق، وأحياناً أقف بها في غرفة المرحاض؛
في نفس غرفتي كان هناك معتقلة تدعى ثريا كانت دائماً تنظر إلى بنظرات غريبة وكأنها تعرفني وتعرف أبنائي ولكن لم أعرفها، وكثيراً ما كانت تتقرّب من أولادي وتلعب معهم؛
في مساء اليوم الخامس عشر من اعتقالي نادى العسكري رقم (9) نهضت فربط يدي ببعضهما خلف ظهري ثم أمسك بإحداهما ليسير بي حيث غرفة الضابط، وعندما دخلت أغلق الباب قائلاً أهلاً وسهلاً، أشرقت الأنوار
خفت أكثر كنت أفكر ما هو مصيري الآن على يديه، ربما يكون هذا هو يومي الأخير، في قلبي أخذت أردد الدعاء بالصبر والاستجارة بالله، هنا قال لي: ماذا تحبين أن تشربي؟ ساخن أم بارد؟
قلت: لا أريد شرب شيء.
قال: أنت (ولي) حيوانه، لا تتمردي علي، أنا أقول لك أتشربين بارداً أم ساخناً؟
قلت: قلت لك، لا أريد بارداً ولا ساخناً.
قال: لا تتواقحي ولا ترفعي صوتك أمامي، مهما علوت لن تعلي أكثر من هذا الحذاء، سأكرر لآخر مرة بارد أم ساخن؟
قلت: قلت لك، لا بارداً ولا ساخناً.
نهض من أريكته بكل قوته وصفعني على وجهي وقال: عندما أقول بارداً أو ساخناً، فهذا يعني أنك ستشربين.
قلت: لا أريد، إن شاء الله أشرب السم.
قال: حسناً، سأسقيك السم الآن أنا وبيدي.
أشعل سيجارة ثم أراد أن يجبرني على أن أشرب منها، لكني قاومته وبشدة، أمسكني من شعري من الخلف وبدأ بضرب رأسي بالحائط، من شدة ضربه لي لم أعد أشعر بالألم فقط بل بخدر في رأسي.
ثم عاود اغتصابي بذات الطريقة التي فعلها أول مرة، ثم قال: أعاود سؤالك تشربين بارداً أم ساخناً (لتروْقِي دَمِّكَ).
لا أعرف كيف استجمعت قوة قلبي لأبصق في وجهه، مُعليةً صوتي في وجهه ومكررة حسبي الله ونعم الوكيل؛
أمسك الابراهيمي وبدأ بكل قوته وحقده يضربني، وأنا أعلي الصراخ راجية أن يسمع صوتي من هم خارج المكان فيدخل أحدهم وينقذني ، ضحك الضابط قائلاً “اصرخي يا …. يا يا ……… فما من أحد في هذا العالم غيرنا وبشار رب الكون” مخاوف كثيرة تدور في رأسي، ماذا سيحل بي بعد تحويلي من المفرزة إلى الفرع الذي يطلبني، ربما كنت من المفقودين، ربما سيحتفظون بي طوال حياتي هنا مرت بي سريعا وجوه كل البشر الذين أعرفهم، المتظاهرين، الجيش الحر، أصحاب البدلات الذين كنت أراقبهم على شاشة التلفاز، زوجي ، أبي أهلي، يخالطني مع الأسى الأمل أن من في الخارج لن يتركوني، مضى وقت لا أعلمه وأنا في أحلامي التي أيقظني منها صوت الضابط ينادي السجان قائلاً: اسحبها كما تسحب الكلاب وخذها إلى الغرفة وارمها هناك كما تُرمى الكلبة، ممنوع عليها الأكل والشرب حتى الغد؛
فتح الباب ورمى بي إلى أرض الغرفة، كنت بالكاد أجر جسدي المنهك أريد أن أصل إلى مكاني، أسرع إلى ابني وابنتي وحضناني وهما يبكيان، وخالتي أم بكر كذلك حضنتني وبدأت تبكي، وتقول لي ماذا جرى لك، ماذا فعلوا بك؟
قلت: ماذا سيحدث لنا، ماذا ينتظرنا ، أريد أن أصرخ، أريد أن أضرب وأن أشتم، ولم يكن باستطاعتي فعل شيء من ذلك، حدثت نفسي بأن أقتل نفسي، فكرت أن موتي وأولادي أرحم لنا مما يجري، أوشكت على الانهيار؛
قالت: يجب أن تصبري، إن لم يكن من أجلك أنت فمن أجل الأطفال، ويجب عليك أن لا تنهاري أمامهم.
أما ثريا فكانت تنظر إلي وتضحك بسخرية وسخف قائلة: يعني ماذا سيكون قد حدث لها، أليس من المعلوم ما جرى لها، ألا تعلمون ما فعلوا بها !؟
نظرت إليها وأنا أشعر باستغراب وقهر قائلة حسبي الله ونعم الوكيل، ثم التفت إلى خالتي أم بكر وسألتها من هذه؟
قالت هي ثريا، ألا تعرفينها؟ وبقيت تحكي لي عنها وعن عائلتها وعنوان سكنها حتى عرفتها وعرفت علاقتها الحميمة بعائلة هاني ابن عم زوجي والغريب أنها لم تخبرني بأنها تعرفني أو تعرف عائلة زوجي؛
مخاوف جديدة بدأت تعاودني أكثر من قبل، وفوق ما كنت أعانيه بدأت أخاف هذه المرة من معتقلة تعاني مثلي وربما أكثر مني أخاف من الفضيحة ومن حديث النساء والمكائد التي تنتظرني من الشارع سيعيرني بما جرى لي هنا، لن أستطيع كتم شيء بعد الآن، قصتي ستدور على كل لسان، وسأتعرض لكلام الناس الذي لا يطيق إنسان حمله؛
قضيت مع أطفالي باقي الأيام في عذاب مضاعف ومزدوج، أصبحت رقماً ينادونها به، وهم يعرفون عن كل معتقلة كل شيء، اسمها، سيرتها أهلها، وكافة التفاصيل، وبتنا نحن المعتقلات نعرف أنهم لا يستدعون الواحدة منا لتحقيق أو استجواب كما يدعون بل لإشباع ملذاتهم الشخصية بالرغم عنا؛
كانت الغرفة مفروشة ببطانيات وهي بذاتها ما نتغطى به داخل الغرفة مرحاض معه صنبور ماء قريب من الأرض، كنا نستخدمه لتنظيف نفسنا بعد قضاء الحاجة ولغسل وجوهنا وأيدينا وأجسادنا، وهو ذاته مصدرنا الوحيد لشرب الماء، كانت الأوساخ والقذارات تكسو المرحاض من كل جانب فكنا نغمض أعيننا ونغلق أنوفنا عندما نشرب مجبرات من شدة العطش، ولم يحصل أن أعطونا أياً من الصابون أو المنظفات.
يصغون إلينا من خلف الباب وينزلون أشد أنواع الضرب على من يسمعون صوتها تصلّي، لمح أحدهم فجأة إحدى البنات تصلي، ففتح الباب ودخل وانهال على ظهرها بالضرب وهو يقول: أتصلين يا …….. تريدين الدعاء علينا!
أوضاع أولادي تزداد سوءً يوماً بعد يوم، ابني وهو نائم تأتيه حالات من الارتجاف وتدوم وقتاً وأنا أحاول إيقاظه وهو لا يشعر بي ابنتي فجأة وكلما ناديتها باسمها ينتفض جسدها، وتشخص عينيها، وتستغرق وقتاً حتى تهدأ في حضني؛
عذاب آخر أعانيه وأنا أشتاق لوالدي الحنون، كبير السن، وخاطر يعاودني آنذاك أنه الوحيد الذي يتألم لأجلي، يضاعف تفكيري هذا من آلامي، أتذكره – وانا في كنفه – كيف يعرف ما أريد قوله قبل بوحي به، ومع ظلال كل ليل يهبط علي بظلمه، كنت أحتضن أولادي وفي مخيلتي ذكريات أبي بصوته ووصاياه القديمة “انتبهي على نفسك، انتبهي على زوجك، أنت بالنسبة لي أغلى من كل هذه الدنيا”
ثم وفي ساعة كأنها حلم، بعد قرابة شهر ونصف من اعتقالي نادوا رقم 9، فخرجت كالعادة والسجان يربط يدي ببعضهما ويشدني ليسير بي أمامه، دخلت إلى غرفة الضابط فتفاجأت بأبي أمام عيني، ركضت نحوه وحضنته وبدأت أبكي وأبي يبكي معي، أخذ يواسيني لا تهتمي يا ابنتي ستخرجين أنت وأولادك ولن يصيبكم مكروه بعدها، وأنا أستمع لحديث والدي فرحت وبنفس الوقت حزنت، فرحت لأنني سأخرج من هنا وحزنت عندما تذكرت ثريا وأنها ستخرج يوماً وتروي كل ما حدث لي، خفت من وقع كلامها بين الناس على أبي وأهلي؛
رأيت والدي يعطي رزماً من المال للوحوش الذين أهانوني واغتصبوني وعذبوني، ثم خرجت بعد أن ختم العسكري على يدي وقال لي: إن مررت على الحواجز أرهم هذا الختم كيلا يعتقلوك وإياك أن يُمحى هذا الختم وإلا ستعودين للمعتقل، هرولت وما خطر في بالي كم سيصمد هذا الختم الحبري؟
اصطحبونا بسيارة عسكرية حسب أوامر الضابط، وأوصلونا إلى آخر حاجز في المدينة وأركبونا في حافلة نقل عام لتوصلنا إلى قريتنا التي يعيش فيها أهلي، وكان قد أخبر سائق الحافلة بأن يخبر الحاجز القادم بأنه هو من أركبني هنا وأني خرجت للتو من مفرزتهم؛
وأنا في الحافلة مع والدي، ما كنت أصدق أنهم فعلاً تركوني تارة كنت أبكي وتارة أخرى كنت أضحك، لم أكن أفهم المشاعر التي كانت تغمرني، سألني أبي احكي لي يا ابنتي هل صنعوا بك مكروهاً؟ ماذا فعلوا بك؟
قلت له: لم يفعلوا بي شيئاً سوى الضرب والإهانة – لم أشأ كسر قلبه ولم أخبره بشيء؛
أستطاع أبي إنقاذي علمت أنه بذل جهداً طويلاً ليقابل الضابط، وأن الضابط لم يكترث لشرحه أنّ لا ذنب لي ولا لأولادي وأسئلته تركزت فقط على ما يملكه أبي من مصدر عيش وحيد، ثلاثون رأساً من الغنم يسرح بها في مزرعة صغيرة يملكها في إحدى قرى حمص ولا يملك غيرها، وعلى ذلك وافق الضابط على إخراجي وأولادي مقابل خمسة من النعاج الولود وخمسة من الحملان الصغار وعشرة من باقي الغنم ومبلغ 175 ألف ليرة سورية يسلمها إياها بيده، ليفرج عنا مباشرة دونما تحقيق أو محاكمة، أسرع في بيع المزرعة بسعر بخس وبجلب المبلغ مع الغنم الذي طلبوه وأخذنا معه ونحن على غير ما كنا عليه نحن؛
وصلنا بيت أهلي، وأقرباؤنا وجيراننا كانوا قد اجتمعوا لديهم، منتظرين بشوق وفرح لحظة وصولنا ، لقائي بوالدتي كان الأكثر فرحاً وألماً، كانت تنظر إلى وكأنها تعلم بكل ما حدث لي، احتضنتني وبكينا كثيراً حتى غطّى صوت بكائنا المكان، كانت قد حضرت لي ولأولادي ألذ ما أحب من الطعام، بطاطا وتبولة وسمك وكباب وحلويات ، تناولت قطعة صغيرة من السمك وحبتين من البطاطا ولم يعد بوسعي أن أكمل، ولداي استفرغا أول لقمتين بعد تناولها، وكأن نظيف الطعام لم يعد يستقر في أجسادنا بعد أن ولغت فيها أقذارهم.
كنا نعاني من الجرب والقمل، احتجنا لعدة أيام حتى ننظف أنفسنا ونستعيد بعض التأقلم مع حياتنا الطبيعية، علم أهل زوجي بخروجي فجاؤوا لاصطحابي مع أولادي إلى بيتهم، لكني رفضت، سيما وأن زوجي ليس معهم، فضلت البقاء في بيت أهلي؛
وبقي همي أولادي وما يعانوه من خوف مستمر لم يغادرهم، ومن البكاء لأتفه الأسباب، والرجفان بمجرد أن يتحدث أحد معهم، من الفزع يوقظهم خلال نومهم دونما سبب، وقلبي الضعيف بدا أكثر صلابة من أجلهم، كم تمنيت نزعه ووهبه لهم؛
بعد شهر تقريباً وكنت ما أزال في بيت أهلي، وزوجي يحاول جلبي وألادي إليه في مكانه خارج المنطقة، حدث ما خفت منه بخروج ثريا، التي أخبرت الناس بما وقع علي في المعتقل، ووصل حديثها إلى أهل زوجي، فأعلم حموي والدي بالخبر، أجابه والدي بغضب ” ابنتنا هي ابنتكم وشرفها من شرفكم، لا يجب أن تهتموا للترهات، وإن كانت حقيقة فلا ذنب لابنتي فيها، وقد تعرضت لها تحت التعذيب والقهر ، عليك أن تحمد ربك على سلامتها، وعيب عليك تأتيني لتلقي اللوم عليها”
الصدمة التالية كانت في زوجي، لم يعد يرغب بإحضاري إليه، سمعت أنه يفكر بأن يطلقني، وكلما اتصل بي يشعرني بالذل والإهانة، حتى تمنيت لو أني مُتُّ ولم أخرج من المعتقل، صدمني أنه لم يفكر أن ما جرى في حقي كان بسببه هو ومن أجله، وكلما شرحت التعذيب الذي تعرضت له زاد في اتهامه لي بجلب الذل والعار لهم؛
قاومت بقوة الإهانة والعذاب والألم والاعتداء في المعتقل، ثم كابرت على جراح في قلبي، وسببها هذي المرة لي زوجي الذي أحب، وصبرت حتى هدأت بعد شهور نفسه، وأخذ يعاود محاولاته في إحضاري من أجل العيش معه في لبنان التي وصلها منذ زمن؛
وبالفعل سلكت طرق التهريب بعيداً عن الحواجز، وعند وصولي إليه لاقاني والطيبة قد عاودته، احتضنني وأولادي والسعادة بادية عليه، يبحر بعينيه في وجوهنا ودموعه تملأ وجهه، وأيام قليلة سعيدة لم تدم فيها فرحتنا، وكأن ماضي اعتقالي بات جزءً من مستقبلي، فبين كل فترة وفترة يعاود قلب زوجي المكسور إيلامه اعتدت على فهم شروده وعلى تجاهل نظراته، حتى يفصح بأسئلته عما حدث لي، وأنا أتهرب من الجواب كيلا أعذبه بالألم الذي عشته، وكيلا يتركني ويتشرد أطفالي وأهله يزيدون الطين بلة بكلامهم المهين في ظهري بحقي خمس سنوات مرت على خروجي وهم على موقفهم لا يكلمونني، ويلحون على زوجي بأن يتركني وينساني كي يزوجوه ممن هي أفضل مني، يسمعونه أنه لا يجب أن يعيش طوال حياته في الذل معي، وأنا لا أرد على كلامهم، وأحاول ألا أهتم فقط أتحسب الله على ما أعيشه؛
حقاً نجوت من المعتقل، وما نجوت من كوارثه النفسية والجسدية، يشتد علي الأسى مع اضطراب لم يغادر أولادي، وكلما نسيت تذكرني آلامي بأزماتي، ديسك في ظهري يستمر بإيلامي، كشفت صورة الرنين أن فقرتين مكسورتين في ظهري من شدة التعذيب، ووجع في قدمي يعاودني فلا أستطيع المشي عليها، وصمم في أذني اليمنى خلفتها مع دوار دائم صفعات الضابط المتوحش، وأسي يشتد علي وأنا أبصر في عيون وحركات وسكتات أطفالي أمراضاً نفسية وجسدية، سعادتهم وحياة أفضل لهم – جُلَّ ما أتمناه – وأن ينتهي هذا الألم إلى الأبد فلا يتعرض له أحد.





