الشهادة الثالثة / في ساحة التعري قتلوا باسل
مازال كابوس اعتقالي حقيقة يومية أعيشها، ففي قريتي يسمونني خريجة سجون، وقصتي حديثهم اليومي بروايات اختلفوا فيها، واتفقوا على ازدرائي، كثيراً ما أسمعوني تهماً مسيئة، واللطيف فيهم من يكتفي بالابتعاد وأسرته عني، وما من جواب لدي سوى البكاء، سئمت نظرات الشزر، فالتزمت البيت لا أغادره، ولا أدري إذا ما كانت معاملة أهالي قريتي للمعتقلات تتشابه مع معاملة أبناء المناطق الأخرى؛
ابني يعاني من إصابة في رأسه عمره ثلاثون عاماً، انشق بداية الثورة عن النظام، وذات يوم قَدِم عدد من شباب قريتنا إليه، يستنكرون مكوثه جانبي، بعد أن خرجت من المعتقل، يحثونه على قتلي ليغسل عاره؛
أجابهم “هذه أمي وأنا أفتخر وأعتز بها، هي لم ترتكب خطأ، ولم تذهب إلى السجن بإرادتها”
بقينا سبعة شهور وابني على هذه الحال، يدافع عني، وكلما أسكت ألسنتهم الجارحة، لاحقوه بغمزهم ولمزهم، وحينما هجرنا النظام بالباصات الخضر من ريف حمص إلى الشمال السوري، اخترنا سراقب لنسكن فيها، فلا نرى من أهل قريتنا أحداً، حتى أرغمتنا شدة القصف على نزوح جديد إلى قرى عفرين، وقصتي تلاحقني، في إشارات ساكنيها، ونظراتهم المشابهة لما شهدته في قريتي، ولداي مازالا يعانيان ويتحملان رفض المجتمع لي، حتى تعبا وقررا بعد ثلاث سنوات مغادرة المنطقة هرباً من كلام الناس، حاولا جاهدين أخذنا معهما، ناقشتهما أن قدري في كل مكان يلاحقني، ورجوتهما أن يرحلا وحدهما، ليشقا طريقهما وقلبي عليهما راض؛
بقيت وبنتاي الصغيرتان وحدنا، أصرف عليهما من عملي في الخياطة على ماكينتي اليدوية، وإن زاد شيء اشتري به أدويتي، لعلاج أمراض تلازمني من أثر التعذيب في المعتقل، أحافظ بصعوبة على دراسة بناتي، وصلت الصغرى الآن الصف الرابع، وأختها أمل في الصف العاشر ، لا تريد أن تتزوج باكراً خلاف أختيها الكبيرتين اللتين تزوجتا منذ سنوات طويلة، تكرر لي قولها “أنت تاج راسي أنا أفتخر بك يا أمي أنا لا أبالي بكلام الناس، وسأكمل دراستي وأصبح محامية، وأخذ لك جميع حقوقك” شخصيتها قوية، ذات يوم ضربت رجلاً في الحي لأنه أزعجني، تفهم ظرفي المالي وتزهد فيما يطلبنه البنات، تقويني حينما أضعف فلا أخاف عليها، بقدر ما أخاف على الصغرى، تنادي أخاها الكبير أبي، لا تتذكر أباها، وصعب عليها أن تفهم سبب تركه لنا؟ صعب عليها أني أعجز عن شراء بسكوتة تأخذها مثل رفيقاتها إلى المدرسة، وأني أعجز عن ثمن حذاء جديد لها، كلما ضاق القديم عليها؛
فيما مضى كنت أعيش مع زوجي وأولادي حياة عادية، وأعمل في مشفى البر بمدينة حمص، حينما اندلعت الثورة تطوعت سراً مع الثوار للعمل في مشفى الوليد، الذي كان يتعاطف مع المصابين فيسعفهم، ويوم قصف النظام الجزيرة السابعة في حي الوعر، جلبوا الكثير من الجرحى إلى مشفى الوليد، حتى نفذت فيه المعقمات والشاش الطبي وبعض اللوازم، فحدثني الدكتور عبيدة قائلاً “سارة، أنت تعملين معي في مشفى آخر، من أجل الأطفال الجرحي الذين أمامك، ساعديني لنحضر شاشاً ومعقماً من مشفى البر”
خفت في البداية وأجبته أن هذا عمل صعب علي، فقال “سأكون مناوباً معك في مشفى البر، وعندما توزعين وجبات العشاء سأكون بانتظارك، مري علي وأخبرك عندها”
وعندما مررت إليه قال لي “أنا أمّنتُ الكمية المطلوبة من مواد الإسعاف الضرورية، عندما يحلّ الليل ستأخذينها وتذهبين بها”
في تمام الساعة الثانية عشرة ليلاً حان موعدي، فأخرجت بعض أكياس القمامة، ومعها أخرجت الكيس المطلوب، وعند حاوية القمامة التقيت بالشاب الذي تواعد معه الطبيب، تناول مني الشاب كيس المواد وأوصله إلى مشفى الوليد؛
كررت ذات العمل بشكل يومي لأسبوع، وكانت قد لاحظتني امرأة علوية تعمل في المشفى
سألتني: أين كنت في هذا الوقت، والساعة بلغت الثانية عشرة ليلاً؟
قلت: كنت أجلب فطيرة من الدكان.
قالت: ومن أين الفطائر في هذه الساعة المتأخرة!؟
ففتحت الكيس وأريتها بداخله ثلاثة فطائر ( كنت قد أخذت حذري واشتريتها من قبل وحملتها معي عندما خرجت – كما أوصاني الدكتور عبيدة – كي تكون حجتي مقنعة إذا ما سألني أحد عن سبب خروجي)
قالت لي: الساعة الثانية عشرة ليلاً وأنت مسؤولة عن توزيع وجبة العشاء، لماذا لم تأكلي من طعام المشفى؟
قلت: لم أشته طعام المشفى، اشتهيت الفطائر فذهبت واشتريتها.
مرت الحادثة بشكل عادي، ورغم شكها لا أتوقع أنها كشفتني، لكني أخذت حذري وتوقفت عن نقل المواد، وبعد أيام قبضت راتبي عن شهر كانون 2016 ، وذهبت كعادتي إلى الريف حيث يسكن أولادي لأعطيهم المال، وفي طريق الذهاب عند حاجز البحوث، طلبوا هويتي، وفاجأوني بأني مطلوبة، أخذوني إلى فرع الأمن العسكري بحماة، وحققوا معي هناك، استغرق اعتقالي شهرين ونيف، أخرجني بعدها أولادي بمبلغ من المال أعطاه لهم الدكتور عبيدة؛
توقعت أن أجد زوجي في استقبالي، وحينما سألت أولادي عنه، تأخروا في مصارحتي حتى عرفت أنه طلقني، وسبب ذلك أني بعد اعتقالي أصبحت كما يقول عاراً عليه، وهو لا يرضى بالعار، قصدت إخواني وأخواتي فوجدت بعضهم على ذات الموقف، وبعضهم لا حيلة ولا قوة لهم؛
مكثت عشرين يوماً مع أولادي في بيتهم الذي هجره زوجي، وعدت بعدها إلى حمص حيث عملي، وبقيت أتنقل بسلام من خلال ورقة كف بحث مختومة أعطوني إياها عند الإفراج عني، كنت أظهرها لحواجز النظام فأمر بشكل طبيعي، وكأن ذلك أثار شك البعض، فاعتقلتني مجموع رعة مسلحة يرأسها أبو شعبان، تزعم انتسابها للجيش الحر، عصبوا عيني وخلعوا حجابي، وجروني في الشارع إلى مقرهم، اتهموني أني أسرب مواقعهم للنظام، شرحت لهم عملي فلم يصدقوني، ولولا معرفة الدكتور عبيدة بأمري وتواصله معهم من أجلي لكانوا قتلوني، تبينوا خطأهم وأوصلوني إلى مشفى الوليد حيث وجدت الدكتور عبيدة والأطباء بانتظاري، كنت أبكي من الألم بسبب الضرب الذي ضربوه لي على قدماي، والأطباء يهونون الأمر علي ويعتذرون مني، دكتور عبيدة قال نحن لا نتخلى عنك، ونحتاجك؛
كنت قد توقفت بعد اعتقالي من قبل النظام عن المساعدة بتأمين مواد الإسعاف إلى مشفى الوليد، وعن أي مساعدة لإسعاف المصابين، كنت على قناعة أني خسرت كثيراً وعليّ أن أحمي نفسي، وفي يوم قصف فيه النظام بالفوسفور منطقتين في حمص، الجزيرة السابعة والجزيرة الرابعة، وكنت بتلك الساعات في عملي بمشفى البر، سمعت حواراً بين عدد من أطبائه الموالين للنظام؛
يقول الأول ” إن شظايا قذيفة الفوسفور تدخل في جسم الجرحى وتستمر بحرق الخلايا بدون توقف
يرد الثاني ” لو كان عندهم أطباء مختصون لوضعوا عند موضع دخول الشظية تراباً أو بودرة طبية أو طحيناً، وهذا كفيل بوقف حرق الشظية للجسم”
لم أتمالك نفسي، ولا أعرف كيف خرجت بلهفة إلى مشفى الوليد القريب مني المسافة بين المشفيين لا تتجاوز 250 متراً، نسيت نفسي وأنا أركض بلباس مشفى البر والساعة قد بلغت الحادية عشرة ليلاً، وبمجرد وصولي حدثت الطبيب بما سمعت، لم يصدقني في البداية قال مستحيل، أخبرته باسم الطبيب الذي تحدث بذلك، فقال “نجرب” وأخذ حفنة من تراب كان في حوض غرسة صغيرة، ووضعه على موضع الشظية التي اخترقت جسم طفلة قابعة في الإسعاف، وفعلاً توقفت الشظية عن السريان؛
التفت إلي بفرح قائلاً “عودي بسرعة يا سارة قبل أن يلاحظوا غيابك” عدت مسرعة فوجدت ذات المرأة العلوية تقف عند الباب، كأنها منذ مدة تراقبني، سألتني “أين كنت ؟”
قلت “خرجت لرمي القمامة وعدت فوراً”
قالت “لكنك لم تنتهي من جمعها، فالقمامة تملأ المشفى”
قلت “أعلم ذلك، خرجت بالقسم الذي استطعت حمله وسأجمع الباقي” تأكدت أنها تشك بي، وحرصت في الأيام التالية على عدم الخروج من المشفى، ولما مرت ثلاثة شهور لم يتعرض لي فيها أحد اطمأننت، وعزمت على زيارة أولادي في القرية، تحركت على الطريق المعتاد من حمص إلى حماة إلى منطقة تقسيس، لأركب منها بقارب صغير يوصلنا خلال ثلاث ساعات إلى قريتنا، أول حمص المدينة وعلى حاجز ديك الجن فتشونا وأخذوا هوياتنا ولم يعترضوني، شعرت حينها بالأمان، لكن هيهات لنا به في هذا الوطن، فعند حاجز تقسيس قالوا: انزلي أنت مطلوبة.
حاولت أن أشرح لهم أن في الأمر خطأ، قلت “كنت مطلوبة، ثم حصلت على كف بحث وأظهرت لهم الورقة
قال: لا، أنت الآن مطلوبة.
قادوني إلى نفس الفرع في حماة، اعتقلوني فيه أربعة أيام، ثم أخذوني إلى مكان آخر يسمى “الأمانات” بقيت فيه قرابة خمسة عشر يوماً، ومنه أخذوني إلى قسم آخر لم أستطع معرفته لأني معصوبة العينين؛ أجلسوني على كرسي حديدي، وثبتوا جسدي عليه بحبل لفوه حولي، وربطوا يداي إلى الخلف، أخذوا يبللون قدماي بالماء ثم يضربوني عليهما بالإبراهيمي (وهو) أنبوب حديدي ملفوف ببلاستيك أخضر، أطلق عليه ضباط الأمن اسم الإبراهيمي استهتاراً بجهود الأمم المتحدة ومبعوثها الأسبق الأخضر الإبراهيمي استمروا بضربي طويلاً وهم يسألون أين الإرهابيون؟ ماذا تأخذين لهم؟ وكيف تساعدينهم؟ ومن أين يدخلون السلاح ؟ وأنا أكرر جوابي أنا لا أعرف أحداً، أنا أعيش في المشفى بحمص ولا أعرف أحداً خارجها.
قالوا : أنت تساعدين الإرهابيين في المشفى.
قلت: مستحيل، أنا لا أساعد أحداً.
تطول جلسات التعذيب بين ساعة واثنتين، وتتكرر حوالي خمس مرات في اليوم الواحد، وبين كل جلسة وجلسة يطلب مني الضابط أسماء الشباب الذين يعملون مع الثورة في المشفى، يقول: إذا أخبرتنا بهم سنتركك، وأنا أرد عليه أني لا أعرف أحداً، فلم أكن أصدقه؛
جلبوا شريطاً كهربائياً يحمل برأسه مكواة تشبه المسامير، يسخنونها ويكوون بها جسدي ما تزال آثارها على رجلي اليسرى وعلى يدي الاثنتين، تذكرت مشاهد المعتقلين الموتى وكنت قد رأيتها مرة في المشفى الوطني بحمص، فشعرت أن الموت محقق وقلت في نفسي ما دمت ميتة في الحالتين فلن أعطيهم أية معلومة عن أي شخص؛
حياتي الريفية الصعبة وقوة بدني جعلتني أتحمل أكثر، وكأنهم بعد أسبوع ملوا مني فأعادوني إلى غرفة المعتقل، البنات المعتقلات اللواتي في غرفتي أخذن يُقطِّعن من ملابسهن الداخلية قطعاً قطعاً ويلفون بها الحروق التي توزعت على جسدي، لكن وبسبب انعدام الأدوية تجرثمت، واستمرت معي حتى الآن ما يسميها الأطباء جرثومة فيروسية؛
في كل مساء يُخرجون بعضنا أو كلنا إلى الساحة، يسمونها ساحة التعري، شهدتها شهر أيار 2017 ، وفي إحدى لياليه أجلسونا على الأرض، معتقلات ومعتقلين، وجروا ثلاثة من الفتيات العذاري إلى وسط الساحة، وهم يضربونهن وينزعون عنهن ثيابهن، حتى أصبحن عاريات بشكل كامل، تقدم ضابط يدعى حسن نحوهن، خلع أولاً سترته العسكرية التي تحمل رتباً على الكتفين، وسحب أصغرهن، بنت الثمانية عشر ربيعاً، وباشر الاعتداء عليها وهو يصرخ فينا بألفاظ بذيئة إنه يفقدها عذريتها، المعتقلون الشباب معنا في الساحة كانوا ثلاثة من القرى المجاورة لنا في المنطقة، اثنان من بيت الخليل، والثالث بطل مجهول اسمه باسل هرموش، زار بصوته فيهم، وجر نفسه نحو الضابط ليضربه والقيود تثقل من حركته، فاضت روح باسل بعد أن أطلق المساعد محمد شقيف النار عليه، ولم يبالوا، تابعوا اغتصاب باقي الصبايا أمام أعيننا كالوحوش، بل الوحوش أرحم؛
البنات يصرخن ويتمنين الموت الشبان المعتقلون انكبوا على باسل المضرج بدمائه وهم يبكون من القهر ، اقترب العناصر منهم وأخذوا يضربونهم بشدّة، ويجرونهم إلى زنزانتهم؛
وفي أكثر من مرة وبعد أن يجلس الضابط جميل في الساحة يُجردون الشبان والفتيات من جميع ثيابهم، ويطلبون بالإجبار من الشبان الاعتداء عليهن، وحينما يرفضون ينهالون عليهم ضرباً ويستدعون العناصر لاغتصاب الجميع؛
يتكرر إخراجنا إلى الساحة، ونحن كبيرات السن يجبرنونا على التعري وهم يضربوننا، فقط لإذلالنا، وليكملوا طقوس ساديتهم وهم يغتصبون الفتيات أمامنا، منهن عفراء، إحدى البنات التي تم اغتصابها، دخلت إلى حمام غرفة المعتقل وهي تبكي وتصرخ وتقول يا خالتي أريد أنظف جسمي من وسخهم، لا أدري كيف أنظف نفسي، لقد كرهت نفسي، رائحتهم لا تفارق جسدي” وأنا أخفف عنها ” يا روحي يا عيني هذا ليس بيدك تحملي واصبري، ليس ذبنك، ربّك يغفر لك” وهي في كل مرة يغتصبونها تعود على هذا الحال، تصرخ وتلطم وتبكي وتدخل المرحاض لتستحم، وذات مرة تأخرت فيه، فدخلنا عليها لنجد عفراء – شبه الملاك في وجهها – مستلقية على الأرض تنزف، لقد قطعت شريان يدها، وماتت
شهدت في ذات المعتقل إنجاب نبيلة ولداً ، لم أسألها عن أبيه، وكنت قد دخلت المعتقل وهي من قبلي فيه حامل، لا أدري إذا ما كانت قد حملت به من اغتصابهم المتكرر، أم أن لها قصة أخرى، في مخاضها به لم يلبوا صراخها لإسعافها، وإلى أن ولدناها تعبت كثيراً، ربطت أنا الحبل السري وخلصت لها المشيمة، وحينما استفاقت انتبهنا لها تريد أن تقتل ولدها، فمنعناها، أكثر ما يحزنني أنها تركت عندي أمانة ضيعتها، فحينما خرجت كتبت على قطعة صابون رقماً لأهلها، وطلبت مني التواصل معهم من خلاله، وأنا فقدت الرقم، ولا أسامح نفسي؛
أتذكر شابين من حماة محمد وأحمد الخليل، أولاد عم، أخرجونا ذات مرة لنشهد تعذيبهما فنخاف ونعترف، وتحت الضرب المبرح والتعذيب الشديد مات أحدهما ، كأنهم تعمدوا ذلك، الآخر حينما أدرك أن ابن عمه قد مات، فقد صوابه وبدأ يصرخ في وجوههم، يسبهم ويشتمهم، وبينما هم ينهالون عليه ضرباً ، يزيد هو في شتمهم حتى أغمي عليه، جمال من الساحل وأبو حيدر وعلي الناصر وأبو علي وحسن حنين كانوا يتفننون في تعذيبنا، ومع كل صباح يحملون الموتى في سيارة، لا ندري إلى أين؟
مرت الأيام وكنت أظن أنهم قد أنهوا التحقيق معي، حتى نادوا باسمي من على باب الغرفة، عصبوا عيناي وأخذوني إلى أحد المكاتب، نزعوا العصابة عني وقالوا لي ألن تعترفي؟ قلت: ليس عندي ما أعترف به، وما إن انتهيت من كلماتي حتى صفعني بقوة شخص ذو جثة ضخمة يدعى يوسف حبيب حمود ويكنى أبو حيدر، قلت له: لماذا تضربني؟ قال: لأنك كذا وكذا، ولو كنت محترمة لقلت لنا أين هم الإرهابيون، ماذا يفعلون من أين يدخلون السلاح إلى مناطقكم؟
قلت: لا أعرف شيئاً عنهم؟
فاقترب مني ورفع رأسي للأعلى بيده، ثمّ أغلق أنفي بأصابعه، ففتحت فمي لأتنفس، فأدخل كماشة فيه وقلع أحد أسناني العلوية، صرخت بأعلى صوتي من شدة الألم، طلب منه المحقق أن يتوقف قائلاً “اتركها الآن ستعترف” قلت والدم يخرج من فمي، لا أعرف شيئاً؟ فأشار المحقق لأبو حيدر أن يستمر ، رفع رأسي مرة ثانية، ويداي مكبلتان خلف ظهري، كرر ذات الحركات، وقلع ثلاثة من أسناني السفلى، فقدت وعيي، ولم أصح إلا وأنا في المشفى العسكري بحماة، كيس “السيريوم” معلق بيدي، وأحد العساكر يحرس باب الغرفة التي وضعوني فيها، بقيت ثلاثة أيام على هذه الحال في المشفى، بعد أن استقرت حالتي اصطحبوني داخل سيارة تشبه البراد إلى السجن، وفور وصولي أدخلوني إلى المحقق؛
قال لي: يا سارة ألن تعترفي؟
قلت ليس عندي ما أعترف به
قال: سنعطيك اقتراحاً إما أن تقبلي به وتخرجي وإما ستبقين حتى تنسين هنا في السجن.
قلت: “أنا جاهزة لما تريدون، لكن أنتم تسألونني عن شباب لا أعرف عنهم شيئاً، أنا عندي خدمة في مشفى حمص مدة اثنتين وعشرين سنة، وقضيت عمري فيه، ولا أعرف شيئاً عن شباب قريتي”
قال لي: “سأطلب منك شيئاً، تنفذينه، أو تتعفنين هنا”
قلت: تفضل سيدي.
قال لي: “ما رأيك بأن أعطيك هوية أمنية تمرين بواسطتها من أي حاجز تريدين، وأيضاً مبلغاً شهرياً من المال، خمسين ألف ليرة، مقابل أن تأتي إلينا كل خمسة عشر يوماً وتعطينا الأخبار، تخبرينا عما يفعلونه عندكم في القرية، وما يفعلونه عندكم في المشفى، وأي شيء تلاحظينه تأتين لتبلغينا به، ونعطيك فوق المبلغ خمسة وعشرين ألف ليرة، اختاري وقرري، ونحن جاهزون لما تريدين”
سرحت قليلاً وفكرت ثم قلت: “نعم أوافق”
نادى العساكر فأخذوني إلى غرفة مجاورة، أوقفوني وصوروني وبصموني، ثم بعد أربع ساعات قضيتها في غرفة الاعتقال نادوا علي، فقال لي: هذه هويتك جاهزة، الوقت الآن قد تأخر، غداً صباحاً ستخرجين يا أمي – صرت الآن أمه – وتعامليننا كما عاملناك.
قلت له: تكرم يا سيدي، فبعدما رأيت الهوية باسمي، صار عندي أمل بالخروج؛
في صباح اليوم التالي بين التاسعة أو العاشرة، أرسل في طلبي فأخذوني إلى الأمانات وسلموني أغراضي الشخصية التي كانت معي كما سلموني الهوية الأمنية وورقة كف بحث، وأعطوني مبلغ خمسة عشر ألف ليرة؛
خرجت وفي داخلي خوف من التفكير ، أجلته حتى أصل أولادي، ما كنت واثقة منه أني لا أخون، ولا أعرف كيف أخدعهم، في طريقي باتجاه قريتي وعند أحد الحواجز سمعت العنصر يقول إنها مطلوبة، أريته الهوية الأمنية، فأشار له رئيسه بألا يوقفني ويتركني أكمل طريقي، فقال لي: اذهبي يا خالة الله معك؛
وبعد أن قطعت المعبر الذي يدخلني إلى قريتي وجدت أولادي في انتظاري عند الجانب الآخر ، كانوا فرحين بخروجي بسلام، أخذوني في أحضانهم، وأنا أفكر بما طلبوه في الفرع مني، قلت لنفسي تحملت كل شيء لكني لن أتحمل الخيانة، وبحت لأولادي السر في تركهم لي، تناول ولدي الكبير الهوية والنقود وأشعل فيها النار، طلبت منه أن يترك لي المال فنحن بحاجته، أجابني: “لا نريد منهم شيئاً يا أمي”
حضنت ولدي، واتفقت معه ألا أعود إلى حمص، تركت عملي في مشفيي البر والوليد، وانقطعت علاقتي مع من فيهما، حتى فجعت من جديد بأختي، وكانت لا تزال هناك عاملة نظافة في المشفى، اعتقلوها من بيتها بعد خروجي بعام وزوجها وأهله أمضوا ثلاث سنين يبحثون دونما جدوى عنها؛
أفكر فيها دوماً، وأتمنى أن تكون ميتة، فلا تتعرض لما تعرضت له مع البنات في المعتقل، ولا تخرج فتجد مثلي بعضاً من أهلنا يتعاطفون من بعيد معنا، وبعضهم لم يكونوا أحسن حالاً في تفكيرهم من أبناء قريتنا، أتذكر زوجي فأشك في نفسي أحياناً وأسأل هل حقاً أنا عار؟ إن لم أك عاراً، فهل يستحق الثمن كل هذا؟ أتذكر باسل وعفراء ونبيلة وأسأل عمن يستحقون كل هذي التضحيات، أتذكر نفسي، بسبب حبي للناس ومساعدتي لهم، بسبب حلم الكرامة الذي عشته لأجلهم، اعتقلني النظام مرتين خرجت في الأولى مقابل المال، وفي الثانية مقابل الخيانة





