الشهادة الثانية / زوجي العميل طلقني
وأنا في عقدي العشرين، ولدت من جديد مرتين، الأولى حينما زرت بيت الله الحرام، والثانية فور عودتي إلى بلدي وحناجر الشبان تصدح بالحرية وتملأ كل مكان، روحي تشدني للانضمام بسعادة وحماسة إليهم، وفي ذات يوم كسرت الخوف وتحذيرات أمي، وكما خططت تركت صالون الحلاقة النسائية الذي كنت أعمل فيه، مرتدية الملاية كيلا يعرفوا شخصيتي، محلقةً في شوارع الحرية، وأجمل أيام العمر، لم تدم طويلاً حتى اشتدت في شهر شباط القبضة الأمنية على الزبداني، ووابل من الرصاص والقذائف يمطر أهلها، ويخلف في كل يوم ضحايا، تحولت معهم إلى ممرضة بعدما خضعت لدورة بسيطة، ثم، وإثر تدمير القصف لكثير من بيوت الحي أجبرني إخوتي على مغادرته مع أمي، فيما هم بقوا فيه؛
مكثنا في بلودان أسابيع حتى انتهى القصف، أو هكذا ظننا، وعدنا إلى بيتنا حيث ملاذنا الآمن، ما كنت أظن أنه لن يكون بعد اليوم آمناً، وأن الأقبية ستكون مستقرنا، فقد تجدد القصف وعادت رائحة الموت تملأ المكان، عادت الاعتقالات، وعدنا نفكر من جديد بالرحيل؛
حزمت أمتعتي مع أهلي وتوجهنا نحو مدينة دمشق، حيث منزل أختي المتزوجة هناك، وأختي الأخرى المقيمة في الكويت أرسلت بطلب زيارة لأبي وأمي من أجل أن يمكثا عندها، لكنهما أجلا ذلك من أجلي، وبانتظار أن أعطي جوابي لشاب من الزبداني تقدم لخطبتي، فوافقت ليطمئن والدي، رسمت حلماً جميلاً أعود به إلى الزبداني، موطن عشقي، وأبني مع زوجي الذي بقي فيها عشي الدافئ، لبست في حلمي فستاناً أبيضاً وسرحت شعري كما كنت أفعل في صالون الحلاقة لمئات الفتيات، سرت في زفتي إلى بيت زوجي والعراضة الشامية على صوت الطبول تتقدمني، لحظات واستفقت على أصوات للقذائف عادت تنهمر ، وأنا عروس دونما طرحة، أركب الميكرو باص في طريقي لزوجي والمجهول ينتظرني؛
لم أبن معه عشاً هادئاً فقد دمر القصف أول بيت نسكنه، والخوف مستمر في كل وقت من حملات تتكرر في الاجتياح والاعتقال حملت، وأكثر ما كنت أخاف عليه هو جنيني الذي في بطني، وقد أعياه جوعي ونحن في الحصار ، لا خبز ولا ماء، حتى اضطررت من جديد لمغادرة المدينة مع النساء، ودعت زوجي الذي بقي فيها، ومعي فقط بلوزة وبنطال على أمل ألا يطول الفراق، توجهت وحيدة إلى مضايا، ومكثت في بيت ابنة عمي الذي لاحقنا القصف فيه، فغادرت ابنة عمي إلى لبنان، وكان علي البحث عن منزل جديد، تحت القصف والحصار وغلاء الأسعار، لا أنا قادرة على الالتحاق بزوجي ولا أنا قادرة على الصمود لوحدي؛
مصيبتي الكبرى كانت في بطني، فالمخاض جاء وجنيني في شهره السابع، لا قابلة أو طبيب في المنطقة، دلوني على بيطري، ووافق أن يجري لي عملية قيصرية، أخبرني خلال ذلك أن المخدر منتهي الصلاحية، بذل ما يستطيع من جهد، لكن مات طفلي؛ تمنيت لو أبقيته في بطني يتنفس فلا يموت حلمي، نزفت بعد العملية كثيراً بسبب البقايا المتروكة في رحمي وضعوا لي سيروماً وكيساً من الدم، وأخبروني أني أحتاج أكثر لكنه غير موجود، بقيت خمسة أيام دونما طعام والجوع شديد، تُباع المواد الغذائية في ذلك الوقت بالملعقة أو بالقطعة، فملعقة المربى بـ 1000 ليرة، قطعة الجبنة بـ 2000 وأنا مثل الجميع في ترقب للفرج، يعيننا الأمل على الصمود، حتى جاءت الأخبار عن إجلاء الأمم المتحدة الأسرى والجرحى من مضايا، وكنت ضمن قائمة الأسماء الذين تم إجلاؤهم لوضعي الصحي بعد الولادة، بقيت محتارة في وجهتي الجديدة بين خيارين، دمشق أو إدلب، ومن أجل أن أبقى قريبة من زوجي الذي اتفق معي على أن يتبعني أخترت دمشق؛
وزعوا المصابين والجرحى على مشفيين في دمشق، أحدهما ابن النفيس الذي وضعوني فيه، وظننتُ أنني سأتلقى الرعاية الطبية المناسبة، لكن ذلك لم يحدث، أدركت أننا في مشفى يشبه المعتقل، أختي جاءت لزيارتي ولكنهم منعوها من رؤيتي، وهكذا بقينا لأيام تحت الإهمال وسوء المعاملة حتى تم وضعنا في حافلة مليئة بالنساء والأطفال والمرضى، قال لنا الضابط أنهم سيقومون بتسوية أوضاعنا لأننا قادمون من منطقة ساخنة، واقتادونا لمكان يدعى مركز ماهر الأسد للإيواء، وجدنا فيه أناساً آخرين، يتجمعون في غرف مشتركة ويستخدمون حمامات مشتركة، بعضهم مضى على بقائه هناك أكثر من عام، وعندما سألتهم لماذا ؟ قالوا لي بأن هذا اختيارهم، لم أطمئن لإجاباتهم، فكرت أنهم أيضاً لم يطمئنوا لي ليجيبوني فكرت بمصيري لوهلة هل سأبقى هنا هل هذه هي النهاية أم بداية بؤس جديد
تواصلت مع أشخاص من مضايا وأخبرتهم بما جرى لي، فطلبوا مني أسماء من كانوا معي من أجل إعلام الأمم المتحدة بذلك، في مساع لإخلاء سبيلنا، اجتهدت بتدوين الأسماء حتى حذرتني إحدى النساء من المخبرين في المركز ومن أن يكتب أحدهم تقريراً بي في ذلك، فمزقت الورقة، وحذفت جميع الرسائل السابقة من جوالي، كنت قبل ذلك قد أرسلت المعلومات كاملة تباعاً، لم أكن قد استعدت عافيتي، وبسبب الخوف وسوء التغذية أصبت بهبوط حاد في ضغطي تكرر علي ذلك حتى أسعفوني إلى المشفى وأنا في حالة إغماء، وهناك جاءتني البشرى قرار إخراجنا من المركز صدر وما علينا إلا أن نأخذ وثائقنا ونرحل، أخبرت زوجي ليرسل لي سيارة تأخذني إليه، وكان آنذاك يقيم في وادي بردى، وبالفعل عدتُ إليه وحاولت البحث عن طبيبة نسائية لاستكمال علاجي ولكنني لم أجد، فقررت الذهاب إلى دمشق من أجل العلاج؛
على أحد الحواجز، يوم 19 نيسان 2016، وأنا في طريقي لدمشق يرافقني أمل جديد بحياة أفضل، كنت أسمع الموسيقى عبر سماعات أضعها في أذني، ولم يقلقني أني وجدتهم يقلبون الهويات التي أخذوها من السائق، ذلك أني خرجت من مركز الإيواء بعد أن سووا وضعي وأخبروني بأن لا مشكلة تجاهي، تأخروا قليلاً فتلاشي الهدوء، ولاحظت أن جميع الركاب ينظرون خارجاً، ما الخطب؟ لا بد من وجود مشكلة تجاه أحد الركاب ؟ حدثت نفسي متمنية له السلامة أطفأت الموسيقى ونزعت السماعات، وتفاجأت بصوت أحد العناصر يصرخ باسمي أنا، أين ريما ؟ قلت وكلي خوف أنا هي، ذهب العنصر وأحضر معه آخر ينادي على اسمي مجدداً قائلاً “الله يعدمني إياها” مسكني كما تمسك الفريسة ضحيتها، وسحبني من معطفي وأنزلني من الباص، حاولت أن أطلب من السائق التواصل مع زوجي ليخبره بما حصل، ونزلت دون أن أعي ما ينتظرني راودني ألف سؤال ولا إجابة واحدة رن هاتفي، لقد كانت أختي، ولم يسمح لي العنصر بالرد، طلب مني إغلاق الهاتف، توسلته دونما جدوى فقط أن أخبر أختي بمكاني لتطمئن أهلي، وضعوني في غرفة صغيرة، وسمعتهم يقولون، سيارة الأمن في الطريق لتأخذها ، خارت قواي وبدأت أشعر بالتعب وآلام شديدة في الرأس، جعلتني مع الخوف أصرخ، فأعطاني أحد العناصر حبة دواء قائلاً هذه لتهدئة الصداع، شعرت بعد تناولها أنني في عالم آخر ، أخافني الوضع أكثر فعمدت إلى التركيز؛
اقتادوني في السيارة، وتذكرتُ أن في حقيبتي ورقة من مركز الإيواء، فحاولت خفيةً أن أمزقها، ولكن أحد العناصر انتبه لي وصرخ في وجهي منتزعاً القصاصات من يدي وهو يقول سنرى ما فيها في الفرع؛
وصلت إلى الفرع، أخذوا أغراضي في الأمانات، لم يبقوا معي سوى كيس محارم صحية، سألوني هل أنت متزوجة؟ قلتُ لا، فلم يكن زواجنا مثبتاً في المحكمة، وكان زوجي مطلوباً لديهم، فخفت عليه وعلى نفسي من ذكر اسمه؛
كان بحوزتي 100 دولار كنت قد وضعتها في حمالة صدري لأتعالج بها في دمشق ترددت في تسليمها للأمانات بدايةً، لكن العنصر قال لي أعطني ما عندك قبل التفتيش، إذا أبقيت شيئاً فسوف أضربك” خفتُ وأخرجت ما لدي وسلمتهم النقود، أنزلوني إلى المهجع، وفيه عشر نساء، ورئيسة للمهجع اسمها مرح، مرح تعمل راقصة ومغنية شعبية، كانت تستجوبني، لماذا أنت هنا؟ ماهي تهمتك ؟ لم أشعر بنفسي إلا وأنا نائمة، فقد أنهكني التعب والإعياء، لم أشعر بما حولي، ولم أستطع الإجابة على أي سؤال، استيقظتُ على صوت إحداهن أفيقي إنهم ينادون عليك، لم أكن أعي إن كان حلماً أم حقيقة، بدأوا باستجوابي، وسؤالهم الأول: هل أنت متزوجة؟ شعرت بأنهم يعرفون كل شيء، ويجب أن أقول الحقيقة، فقلت نعم أنا متزوجة، اكتشفت من خلال الأسئلة أنهم يعرفون عني أدق التفاصيل، عملي بمراكز الإيواء، التمريض، الجمعية الخيرية في مضايا، الأشخاص الذين عملتُ معهم، لم أستطع الإنكار تحت تأثير الدواء العجيب الذي تناولته عند الحاجز، ووسط التعب والإرهاق أردت فقط الخلاص وأن يعيدوني للمهجع، لأنام بسلام؛
أعادوني إلى المهجع وأنا منهكةً متعبة، عرفت أنني في فرع الدوريات 216 بمنطقة القزاز ، بنات المهجع بدأن يواسينني، تعرفت عليهن، نتحدث تارة ونبكي تارة أخرى والأيام تمضي، أما مرح رئيسة المهجع فكانت تتأمر وتتجسس علينا، تحاول أن تعرف قصة كل سجينة حتى تبعث بالأخبار إلى الضباط، والنساء كن على علم بوضعها وكن حذرات خلال الحديث معها ، لم تأت إلى المهجع بسبب موقفها من النظام كما تدّعي، وإن كانت قد شتمتهم مرةً، فهم يعاقبونها ويُشغلونها لصالحهم في كل مرة؛
بقيتُ في الفرع 11 يوماً ، كانت الأيام والساعات تمر ببطء شديد والذكريات تراودني، أمي زوجي أخي الذي استشهد أخوتي المعتقلين، تُرى هل هم في أروقة هذا الفرع هل من الممكن أن يكونوا بالمهجع المجاور ! هل ممكن أن أسمع صوتهم تمنيت كثيراً وبكيت كثيراً، ترى متى سينتهي هذا الكابوس اللعين مصير مجهول، وغد مظلم كظلام ذلك المهجع، مضت الأيام ثقيلة حزينة مؤلمة مفعمة بالذكريات الحلوة والمرة، تمنيت لو أنني بقيت في الحصار، وكابدت الجوع والعطش إلى آخر عمري، تمنيت لو لم يسقني قدري إلى مصيري المجهول، تمنيت لو أني لم أشهد قصة إحدى المعتقلات، أحضروها مع ابنها الرضيع وزجوا بها في المهجع بدونه وقد ملأ بكاؤه المكان، وهي تتوسل ليعيدوه دون أن تفلح محاولاتنا التخفيف عنها، تمنيت لو أني أستطيع أن أساعدها، فاستغاثتها ما تزال في أذني؛
صباح اليوم ال 11 استدعوني والسجان يقول أحضري كل أغراضك، صديقاتي في المهجع بدأن يوصينني أن أتواصل مع أهاليهن وأزواجهن، اجتهدت في حفظ الأرقام والعناوين، وعندما خرجت من الباب لم يدعني العناصر أذهب حرة، فقد اقتادوني إلى الحافلة، فأدركت أنني ذاهبة إلى فرع آخر، معاناة أخرى ومصير جديد مجهول، تذكرت حديث النساء في المهجع، تذكرت قصة إحداهن عما جرى لها في فرع آخر من تعذيب وتعرية واعتداء، لهجت بالدعاء، حتى قاطعني أحد العناصر متسائلاً في غضب “بما تتمتمين يا كذا وكذا” كأنهم قد شهدوا من قبل أسرار الدعاء، كأنهم يخافونه ويحقدون علينا أكثر بسببه، ويجدون الحل في كتم أنفاسنا لا بمراجعة أنفسهم، فيزدادون ظلماً؛
وصلت إلى فرع الخطيب 251 بشارع بغداد، التقطوا لي صوراً جانبية وأمامية، أخذوا أغراضي ووضعوني في أحد المهاجع وتفاجأت بنساء كن معي في فرع الدوريات، كان المهجع مكتظاً بالنساء ولا نستطيع النوم إلا بالتناوب، معاناة جديدة، وما سمعت عنه من تعنيف نفسي وجسدي بات حقيقة، في أول يوم تحقيق معي، طلبوا مني أن أضع عصبة من الكرتون على وجهي، أمسكت بظهر العنصر ليقتادني إلى التحقيق، بدؤوا باستجوابي: من أنت؟ وما هو عملك؟ ومن أين؟ تفاصيل أخرى؟ حاولت أن أتظاهر بالغباء لأنفذ منهم، ولكنهم بدأوا بالصراخ والشتائم بأبشع الألفاظ، طلبوا مني أن أفتح صفحتي على الفيس بوك وأضع الشيفرة الصحيحة، وإلا سيزيد عقابي، بدأوا بقراءة منشوراتي، كنتُ أكتب منشورات عن الحصار ومعاناة الناس وأشعار محكية، فسألوني عن زوجي، قلتُ لهم أننا منفصلان، وهو يحاول الإساءة لي عبر صفحتي، ظننت أن هذه الحيلة ستنطلي عليهم ولا تسبب الضرر لزوجي الذي هو أصلاً غير متواجد في مناطقهم، لكنهم لم يقتنعوا، فكل النساء يقلن نفس الجملة ونفس الحجة، وصلوا إلى صور زوجي على الفيس بوك، وخلفه في إحداها مكتوب على الجدار جبهة النصرة؛
أزالوا العصبة عن عيني وقالوا لي اقرأي ماذا كُتب هنا؟ قلتُ مرتعدةً: جبهة النصرة، فجاءتني الصفعة الأولى. أعادوا السؤال مرة ثانية، وأعدت نفس الإجابة فكانت الصفعة الثانية، واستمر التحقيق على هذا النهج، اتهموني بإدخال الذهب والمال والسلاح إلى الزبداني وأنا لم أفعل ذلك فأنكرتُ بشدة، استمروا في ضربي حتى بدأ الدم يخرج من فمي وتكسرت أسناني، كنتُ أعاني قلة التغذية وضعف الكلس والفيتامينات فزاد هذا في إنهاكي؛
أعادوني إلى المهجع وأنا مضرجة بالدماء، النساء المتواجدات قمن بقص قماش من حجابهن ليوقفن تدفق الدماء من جسدي، بعد ست ساعات أعادوني إلى التحقيق لم يبالوا بوضعي ولا يهمهم إن كنتُ متعبة أم لا، فتحوا جوالي وقاموا بالاستماع إلى التسجيلات الصوتية لوالدتي والتي أرسلتها للاطمئنان علي، لم أكن قد سمعتها من قبل، فأصبت بالانهيار وبدأت بالبكاء والصراخ، إنه صوت والدتي ملهوفةً علي، ولا أستطيع الرد عليها وإخبارها بأي شيء، أمر المحقق بفك العصبة عن عيوني، رأيته يقلب صوري الشخصية في جوالي، أشار إلى صورتي وسألني من هذه الجميلة؟ فقلتُ أنا، نظرت إليه فأخافتني ملامحه، يجلس خلف طاولته وبجانبه شخص أخر، عاود المحقق تقليب الصور مجدداً ، وسأل عن صورتي وأنا أجلس على الأرجوحة، قال: ما هذه ؟ فقلتُ: أرجوحة ضحك ساخراً وقال: أرجوحة !! أم أنها الأداة التي كنت تغرين بها جنودنا يا………. صرخت بملء صوتي: لا لا إنها أرجوحة فقط، استمر التحقيق لمدة ساعتين وأعادوني إلى المهجع، كان يوماً قاسياً دامياً تعرضت فيه للضرب المبرح والشتم والإهانة، وأنا المدللة عند أهلي، آخر العنقود التي لم يضربني أبي ولا أحد من أهلي قط، ها أنا ذا أتعرض لكل هذا التعذيب والتعنيف والإساءة، إلى متى وما الذي ينتظرني وإلى أين المفر إلى متى كل هذا الذل كل هذه الأسئلة كانت تعصر فؤادي، أنظر إلى وجوه المعتقلات التي ملأها الحزن والألم، كنتُ أتمنى أن أصرخ وأبكي ملء الكون ولكن هل من مجيب!!
في اليوم الثالث تم استدعائي مجدداً ، أجبروني أن استلقي على الأرض ويداي مربوطتان للخلف، وبدأ بسؤالي عن أسماء من عملوا في جمعية خيرية كانت مخصصة للمساعدات الإنسانية، أنكرت في بداية الأمر ولكن الضرب أجبرني على إعطائه ألقاباً لشهداء وأناس خارج البلاد، توقعت أن هذا سينفعني، لكنهم ضربوني واتهموني بكتم جناية، سألني عن اسم امرأة فقلتُ: لا أعرفها، فاشتد في ضربي على بطني وظهري وسحلني على الدرج، سمعت صوتاً لإحدى المعتقلات في غرفة مجاورة وهي تصرخ وتقول “لا تفعلوا، سأدلكم على بيوتهم، سأدلكم على بيوتهم في الغرفة المجاورة استمروا بالتحقيق معي وأنا جاثية على ركبتي وسألوني عن كمية الذهب والأسلحة التي أدخلتها إلى الزبداني، ولكنني أنكرت وبشدة، فكيف أعترف بشيء لم أفعله انهال علي بالضرب على وجهي وظهري وبطني وكأني لست بشراً، وتوعدني ساخراً لا تعرفين أليس كذلك! سأجعلكِ تنطقين رغماً عن أنفك، وأنا لا زلتُ أصر على الإنكار بأنني لم أفعل ما يقوله عني، فجأة سمعت صوت شخص يئن بالقرب مني، التفت إلي المحقق وقال لي هل تعرفين من هذا! قلتُ: لا ضحك ساخراً بنظرة كلها حقد واقترب من أذني وصرخ إلى أحد العناصر اخلعوا ملابسها وقوموا بتعريتها وأدخلوها إلى مريض السل هذا” لم أشعر بنفسي إلا وأنا تحت أقدام المحقق أتوسله وأبكي ألماً وقهراً، أريد أن أقبل قدميه، أي شيء أفعله لأنقذ نفسي من التهلكة، سأعترف بما لم أقم بفعله ! لقد اعترفت كذباً “أجل أنا أدخلت الذهب والسلاح نعم نعم فعلتها ضحك ساخراً وقال لي: كان يجب أن تفعلي ذلك منذ البداية، جاء بأربع ورقات فارغة وجعلني أوقع عليها دون أن أعرف ماذا سيكتب فيها، حزنت كثيراً، فكان من الممكن أن يقول لي منذ البداية وقعي دون اللجوء إلى الكلام القاتل الذي وجهه لي، عدت إلى المهجع، وأنا أتذكر ما حدث معي، كيف كانوا سيرسلونني ليغتصبني مريض السل! كيف ضربوني بلا رحمة حاولت المعتقلات في المهجع التخفيف عني وطمأنتي، فبعد أن وقعت على الأوراق لن يستدعوني مجدداً، وربما يتم إخلاء سبيلي، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم بذلك، وما علي الآن إلا أن أعد الأيام، وبدأت أفعل ذلك، كنتُ أشاهد نساءً يُخلى سبيلهن، وبعضهن الآخر يحولن إلى سجن عدرا للتحقيق معهن من قبل القاضي، بعضهن يعيدوهن ليكملن أوراقهن وإضبارتهن في فرع الخطيب، نساء كثيرات عدن، ونساء خرجن من الفرع وأنا ما زلتُ في مكاني؛
في فرع الخطيب كانوا يقدمون لنا وجبتي طعام، آخر وجبة تكون عند العصر ونبقى بعدها بدون طعام إلى اليوم التالي، بعض المعتقلات تخبئن القليل من الطعام عصراً لتأكلنه ليلاً، والطعام عبارة عن أرز مطبوخ بماء البندورة وبطاطا مسلوقة ولكنها نيئة، وهو في كميته لا يقي الجوع، وأنا كنت من قبل أعاني قلة الطعام بسبب حصارنا في مضايا والزبداني، وبالكاد جسدي الهزيل يتحمل، طبيب السجن لا يعطينا شيئاً ، الصلاة ممنوعة، وكاميرات المراقبة متوزعة في كل الغرف، كنتُ أتوضأ بالحمام، وأحاول أن أبحث عن مكان بعيد عن الكاميرات لأصلي، الغرفة كانت صغيرة، والحمام بداخلها دون باب أو ساتر، والنساء يقضين حاجتهن ويستحمون داخل ذلك الحمام، فتقوم بعضهن بوضع ساتر لبعضهن الآخر، وفي بعض الأحيان كن يقمن بغسل صحون العناصر في الحمام ليعيدوها لهم نظيفة بناء على أوامرهم، المكان بارد ورطب ومليء بالقمل والحشرات الجدران مخطوطة بأسماء المعتقلات، وتاريخ مغادرتهن المهجع وكم يوماً مكثن فيه، كتبتُ أنا أيضاً اسمي على ذلك الجدار الأسود، وكتبت رقم 15 ، أي أنني مكثت إلى الآن 15 يوماً، ظناً مني أنني سأخرج قريباً وما كنت أتوقع أن المدة ستطول وتطول؛
كنتُ وصديقاتي نخرج لمدة نصف ساعة إلى غرفة لها أربعة جدران عالية وفتحة سماوية صغيرة، كنا نبحث عن ضوء الشمس لنشعر أننا سنعود للحياة يوماً ما، كان القمل يملأ المهاجع، والفتيات يقمن بتقسيم العمل إلى مجموعتين لتنظيف المهجع وتهوية الأغطية من أجل منع انتشار القمل، بعضهن اعتدى على الوضع، أنا لم أستطع الاعتياد، كنتُ أحلم بأن يُقرع الباب ويُنادوني باسمي، تحت أي ذريعة، حتى ولو كان من أجل التحقيق، فقط لأطمئن أنهم لم ينسوني هنا، بعض النساء قد مضى على اعتقالهن أكثر من ستة أشهر، و كنتُ أخاف أن أبقى نفس المدة، لا زال هذا الهاجس يدور في رأسي يؤرقني ويزيل النوم من عيني، وفي مهجعنا فتاة كانت تبصر لنا بطريقة مضحكة، تتوقع لنا أمورنا، كنت أقصدها للتسلية مع أني لا أصدق الخرافات، وربما كنت كالغريق يتعلق بقشة، وكنا نخترع بعض الألعاب ليمضي الوقت؛
في اليوم الخامس والعشرين عند الساعة الواحدة ليلاً، نودي على اسمي مع مجموعة من الفتيات، لم يكن إفراجاً، فقط نقلونا من جديد إلى فرع مجهول جديد، وصلنا الأمن القومي عند الساعة الثانية ليلاً، والضابط المناوب هناك استقبلنا بغضب، لأن السيارة التي أقلتنا قد أقلقت منامه المبجل خرج بسرواله القصير، وصرخ فينا “أدرن وجوهكن يا حيوانات يا ………. كذا وكذا” كانت في غرفته سجينة وكأنها تعمل معهم، طلب منها تفتيشنا ، فنزعت أمامه شيئاً من الثياب عن البعض منا، ورحلة استجواب جديدة من الصفر بدأت من أنتم؟ من أين أنتم؟ ماذا تفعلون؟ ثم وضعونا بزنزانة، كانت الصلاة ممنوعة منعاً باتاً، وكنتُ أصلي بعيني، المضحك المبكي أني رغم قسوة هذا الفرع كنت سعيدة أنهم يقدمون لنا المربى، وكنتُ ألتهمه بشراهة، فأقوي به جسدي النحيل؛
في اليوم الثالث نادوا على اسمي، ارتعبت يا ترى إلى أين الآن! هل بقيت فروع أخرى لم يأخذوني إليها ما كنا نعرفه عن دورة حياة المعتقلة يتوقف بعد فرع الدوريات، وفرع الخطيب وفرع الأمن القومي؛
نهضت معهم وأنا أرتجف خوفاً وقلقا، ومعي ثلاث بنات، كرر علينا العناصر ذات الأسئلة وأجبت بذات الأجوبة، أعادوا تفتيشنا وخلعوا أغطية رؤوسنا ، والألفاظ البذيئة والإهانة تنهال علينا كل وقت، ثم سلمونا الأمانات التي وضعناها سابقاً، ونقلونا إلى حافلة مع شابين آخرين، الحافلة كلها شبك حديدي ولكنني كنتُ أستطيع أن أرى الناس والمارة، فهذا منهمك بحمل الأكياس، والآخر يحاول عبور الشارع، وتلك المرأة تمسك بيد ابنتها خوفاً عليها، إنها الحياة الطبيعية للبشر، تذكرتُ النساء المتواجدات في السجن، وتذكرت خوفهن على أولادهن، وتمنيت لو أنني لم أر ما رأيت، لا يشعر بالحرية أحد بقدر ما يشعر بها من يفقدها، وبين الحلم والواقع وصلنا إلى الشرطة العسكرية، عالم آخر، وعذاب جديد، والمحامون مع الناس ينظرون إلينا من الأعلى إلى الأسفل، بعض نظراتهم شفقة، وبعضها شماته، وبعضها تعال، وبعضها لم أستطع تفسيرها، ربما حتى أصحابها لا يعرفون تفسيرها، أو أنهم يخدعون أنفسهم ليهربوا من ضمائرهم، تمنيت لو أستطيع التحدث مع أحدهم لأطلب منه أن يتواصل مع أهلي فأطمئنهم، ولكن هيهات كلما توسلت لأحدهم بعيوني كي يقترب مني، أشاح بوجهه عني، فاقدو الكرامة قطعاً فاقدون للشيمة والرجولة أدركت ههنا أني أقوى منهم جميعاً وأني أعز منهم، أدركت أني في قفصي أكثر حرية منهم؛
بدأوا بفتح الملفات من جديد، داروا بي بين الغرف لاستكمال الإجراءات، سألني أحد العساكر مستهزئاً: “هل تقبضين راتبك بالدولار! إن كان ذلك صحيحاً فسأترك عملي وأعمل معك”، لم أفهم ما قاله، ربما قد وضعوا لي تهمة جديدة، وهي التعامل بالدولار، كل شيء جائز عندهم، وبعد أن انتهوا، وضعونا في حافلة ضيقة مع مجموعة رجال، وهم حولنا لا نستطيع التكلم بشيء، فقط ننظر إلى عيون بعضنا، ونلهج في قلوبنا بالدعاء ، أو دعونا نحن النساء في قسم كفرسوسة، ولا أعرف إلى أين أخذوا الرجال، قالوا لنا إننا سنبقى لديهم مدة ثلاثة أيام، وأن الطعام والشراب يباع ههنا بأسعار مضاعفة، في هذا القسم وجدت المجرمين الحقيقيين (دعارة، سرقة، مخدرات، نصب، احتيال لم يكن يخطر ببالي يوماً أنني سأوضع في صف هذه النماذج من البشر، كان المسؤولون عن القسم يأمرون السجناء بالعمل والتنظيف داخل الزنزانة وخارجها، لم يوفروا أي عمل قط وأي مهمة متعبة إلا وقاموا بتسخيرنا بها دون رحمة أو شفقة، في اليوم الثالث وفي الليلة الثالثة علمت أن رمضان يهل في الغد، بكيت شوقاً إلى أهلي؛
نقلونا إلى سجن عدرا ، ووضعونا في جناح الإرهاب، شاهدت عددا من النساء اللواتي كن معي في فرع الخطيب، منهن امرأة تدعى هناء خالد من الزبداني أعرفها جيداً، فرحت حينما علمت أن الاتصال الهاتفي ههنا مسموح، وحزنت حينما أدركت أن جزءاً من ذاكرتي قد تلاشى نسيت أرقام هواتف أهلي، بكيت وأنا أحاول استذكار أي رقم لصديقاتي فلم أتذكر ، قالوا لي إنني أستطيع أن أقدم طلباً للعقيد كي أحصل على رقم أهلي، ثم وبعد حين استرجعت رقم صديقتي، اتصلت بها على عجل فأخبرتني بأنها وأهلي على علم بوضعي وهم قلقون علي جداً، بكيت لأجلهم، وبات همي معرفة الوقت الذي سأمكنه هنا، وكلما وجدت معتقلة طال بها السجن أسألها كم لك هنا، كنت أفزع حينما يكون الجواب سنوات؛
الحياة مع السجينات في عدرا صعبة بسبب تنوع تهمهن، معظمهن محكومات بدعارة أو سرقة أو قتل أو مخدرات، يختلف الحال عما كنا عليه خلال الاعتقال في الفروع الأمنية، فللمعتقلات قضية نبيلة تجمعهن، ولأجل هذا فالتعاطف فيما بينهن كبير، هنا التمييز واضح في كل شيء، للمحكومين القدامى أو لمن يمتلكون المال أسرة ينامون عليها، واحياناً يؤجرونها للسجينات، كان نوم الأرض من نصيبي وكنا ننظف الغرف ونصطف عند الساعة العاشرة من كل يوم، موعد جولة العقيد والملازم، ومن تصلهم بحقها شكوى تعاقب بالضرب أمام الملأ، والبقية يعدن إلى مهاجعهن؛
بعد أيام ساقوني إلى المحكمة مع مجموعة نساء، دخلت إلى القاضي وبجانبه امرأة تكتب، استعطفت دونما جدوى القاضي، فأعادني إلى السجن، رويت لمن معي ما حدث وذكرت اسم القاضي، فطمئنوني أنه سيعيد استجوابي من جديد وقد يخلي سبيلي؛
وأخيراً استطعتُ التواصل مع زوجي حاول تهدئتي وزرع السكينة في قلبي وأن الأمور تجري على ما يرام، علمت لاحقاً أن عمتي قد أعطت زوجي مبلغاً من المال، كي يوكل محامياً للدفاع عني، كان يخبرني كل يوم أنه سيتم إخلاء سبيلي غداً ، ويأتي الغد وأبقى كما أنا في السجن، كنتُ أنتظر هذا الغد بفارغ الصبر ، أعد الأيام والساعات والدقائق، هل سيكون اليوم ربما غداً! رمضان أيام فضيلة، وسأخرج فيه لا محالة، هذا ما كنت أفكر به وأحلم؛
ثم كانت الصدمة بأنباء تردني أن زوجي لا يتابع شأني، حاولت التواصل معه مراراً ولكن ولا مجيب، تواصلت مع أختي لأعرف الحقيقة، وأعرف ما فعله بالمال الذي أخذه من عمتي؟ هل وكل به محامياً من أجلي، كانت في كلامها تزرع في قلبي السكينة، طلبت مني أن أنسى المبلغ الذي أخذه زوجي، وأن أنساه، فهي من ستتابع أمري، وبالفعل وكلت لي محامياً، تدبرت وأهلي المال من أجلي وباشرت تراجع القاضي بشأني؛
التقيت بكثير من النساء، بعضهن بتن صديقات عزيزات، رئيفة ذات العشرين عاماً، وأم كرم المرأة الكبيرة الوقورة الحنونة، وممرضة الجناح هناء ابنة بلودان، كانت بغاية اللطف معي، قدمت لي المساعدة واللباس النظيف عند وصولي المهجع، ثم وبعد فترة نقلوها إلى جناح آخر، أفجعني بعد فترة خبر موتها، التهاب شديد أصاب معدتها، وجعلها تتقيأ دماً، بسبب سوء العناية وإهمال السجن للعلاج توفيت هناء ، الفتاة القوية التي طالما داوت الناس، صاحبة الكرامة التي قاومت شبيحة النظام في بلودان ومنعتهم بصوتها العالي من التحرش بالنساء، وكان ذاك السبب الوحيد في حقدهم الذي أوصلها للسجن مع زوجها وأختها، لفقوا لهم تهم إرهاب متعددة وما من فعل لهم سوى تعاطفهم مع النازحين ودفاعهم عنهم؛
بقيتُ في سجن عدرا تسعة شهور، أمضيتها بحالة صحية سيئة، طبيب السجن كلما قصدته يعطيني فقط مسكناً، لم يخطر له أن يفحصني أو يعالج الالتهابات في أحشائي؛
استعنت بالله كي أستعيد حيوتي وأعود كما كنت فتاة مفعمة بالنشاط والمرح، لكن ورغم إرادتي تغيرت شخصيتي، وما زال يخالطني مع طبعي الفطري هشاشة وانكسار غيرتني كثيراً؛
عشت في المعتقل قصصاً كثيرة لبطلات بعضهن خرجن وبعضهن فقدن، أتذكر ذلك اليوم السعيد الذي وضعت فيه سميرة مولودها، أتذكر ذلك اليوم الحزين الذي مرضت فيه الطفلة الرضيعة، ولم يلب السجانون طلب إسعافها إلا بعد فوات الأوان، أخذوها ساعة وعادوا بها إلى أمها جثة هامدة، لتضاف إلى جدران السجن اللعين حكاية جديدة تتكرر بشخصيات متعددة؛
وفي ذات يوم جاء الفرج، إنهم يذيعون اسمي لأن لدي جلسة محكمة في الغد، شهور وأنا أترقب اسمي، وأحفظ خلال ذاك الأسماء المذاعة، وأعرف من بقي منهم ومن أخلي سبيله، وبالرغم من معرفتي بالمبلغ الكبير الذي دفعته أختي للقاضي، بقيت خائفة من تكرار ما جرى معي في الجلسة السابقة، هل يا ترى سيعيد التحقيق معي، أم سيفرج عني، أم سيحيلني إلى محكمة الجنايات مثلما حصل مع كثيرات من رفيقاتي ؟ وعلى هذا لم أنم حتى الصباح، حيث تم اقتيادي إلى القاضي، الذي أصدر قراره بمنع محاكمتي لعدم كفاية الأدلة، وما من شيء قد تغير في أقوالي وإضبارتي سوى مبلغ المال الذي دفعه له أهلي؛
إنها الحرية، بعد قرابة عام مضى من عمري، تغير فيه عمري تمنيت لو أنني أرقص وأغني لأعبر عن سعادتي، لكنها دموعي غلبتني، ولا أدري أهي دموع الفرح لخروجي، أم دموع الحزن على ما أصابني من قهر، أم هي دموع الخيبة، تقتلني، لخيانة زوجي، أم هي دموع الوداع لرفيقاتي في السجن، أحببتهن كأخواتي، لا أدري هل سيخرجن من بعدي ؟ هل سأقابلهن أحراراً من جديد؟ استقبلنني وأنا عائدة من المحكمة بحب وحسرة، شاركنني بهجتي، وبقيت أتلقى وصاياهن وأحفظ رسائلهن ليومين، حيث تم الاحتفاظ بي في عدرا أمانة، قبل أن ينقلوني إلى محكمة الريف، صباح أول يوم دوام، وأنا في الطريق أوزع مبلغ النقود – الذي تركته أختي عندي احتياطاً – على من أصادفهم، حلوان، والمحامي يرافقني، حتى نظارة المحكمة المليئة بالقمل والحشرات، بقيت أنتظر فيها من الساعة العاشرة والنصف وحتى الرابعة عصراً ، لم أر أختي التي كانت تنتظرني حتى تم استدعائي إلى المحامي العام وأنا مكبلة اليدين، بدأت تجهش بالبكاء وأنا أمر من أمامها، ربما أقلقها شكلي وما آلت إليه حالتي، أدخلوني إلى المحامي العام، سألني عدة أسئلة، وقعت بعدها على الأوراق، سلمني هويتي والأمانات التي كانت بحوزتي، وأفرج عني كان إحساساً مختلفاً ورائعاً، كأني ولدت من جديد، خرجت أنظر إلى السماء وأتمعنها، وأنا أحتضن أختي كل حين، تعانقني فلا تتركني إلا لالتقاط صور لي ترسلها إلى أهلي، غادرت وقد أخبرني المحامي أني بالختم الموجود على الأوراق أستطيع عبور الحواجز، فقط مرةً واحدة؟
وصلت بيت أختي شعرت بها تعيش أجمل يوم في حياتها، تغني وتهلهل وترقص كما لم أرها من قبل، سهرت بجواري حتى الصباح سألتها عن زوجي، فأخبرتني أنه لم يتواصل معهم، لم يسألهم عني، وبعد أن استلم من عمتي النقود ليتصرف بها من أجلي غير رقم هاتفه وأختفى، أحسست مجدداً بالآلام في بطني في اليوم التالي ذهبت إلى الطبيب، فأخبرني أن مرارتي ملتهبة، وعلي إجراء عملية مستعجلة، نجحت العملية، لكني بقيت أتألم، ربما بسبب جسدي الهزيل، ولم أكن أغادر منزل أختي في حي الجديدة خوفاً من الحواجز، والتزاماً بتوجيهات المحامي العام، اتصلت بحماتي، أم زوجي فردت علي ببرود، وقالت إنها لا تعلم عنه شيئاً، كنتُ خائفةً جداً، لا أغادر بيت أختي، لا أستطيع التحرك ولا التنقل من مكان لآخر، كنتُ كلما نظرت في الشارع، دب الذعر في قلبي من مشهد العساكر يمر أحدهم بين حين وآخر ؛
شهور جديدة مضت وأنا حبيسة البيت، ومخاطرة جديدة كان علي خوضها حينما سمعت أنهم قرروا مبادلة سكان كفريا والفوعة بسكان مضايا والزبداني، شاورت أهلي وأقاربي، ورغم صعوبة فراقي لأختي انتقلت إلى الشمال بحثاً عن الأمان، وهناك في إدلب وضعوني في مدرسة، ولم أكن أعرف أحداً، اتصلت عبر حساب الفيس بوك بأخ زوجي وكان يخدم في جيش النظام، أخبرني ببرود أن أخاه طلقني شعرت بالإهانة، شعرت بالخيانة فصورته على الفيس بوك أمام شعار جبهة النصرة كان سبباً في تعذيبي، وإذلالي، استجمعت قواي وهددته بأني سأنتقم منه، وإذا كان قد طلقني حقاً فليسمعني كلمة الطلاق بصوته، بعد عدة دقائق تفاجأت باتصال من زوجي، وبكل احتيال يسألني: كيف حالك؟ هل خرجت؟ أين أنت الآن؟ شعرت بالقهر في قلبي دون أن أبدي ضعفي، أجبته بأنني في إدلب، فما كان منه إلا أن يُكمل دناءته ويقول لي: لو كنت في دمشق، لكنتُ أتيتُ وأخذتك، لكن وكونك في ادلب فسوف أطلقك، صعقتني كلماته، شعرت بالظلم مرتين، وقد كنت قبل أن أسمعها من لسانه أكذب نفسي، ولا أصدق أنه فعلها، كيف ذاك وقد رضيت به شريكاً لحياتي وضحيت من أجله استجمعت قواي وأخبرته دونما انكسار أنني اتواصل معه ليطلقني، فطلقني برسالة صوتية أرسلها، بكل بساطة، اكتشفت لاحقاً بأنه صرف في الملاهي النقود التي أخذها من عمتي ليوكل لي محامياً، لم يكن ذلك مستغرباً حينما انكشفت حقيقته، فقد التحق بجيش النظام، وأصبح أحد كبار الشبيحة في المنطقة، بعد التسوية والمصالحة، وعلى أغلب الظن وكما يؤكد من يعرفه أنه في الأساس كان مخبراً علينا، وبقي بيننا مزروعاً لصالح الأمن، بمعرفتي الحقيقة ارتحت، فقد بات مفهوماً لدي حجم النذالة التي تجري في عروقه، وسعدت أني تخلصت منه؛
في إدلب بدأت وحيدة في حياتي الجديدة، أتنقل من بيت لبيت، وأعمل مع المنظمات، في أحد البيوت التي كنتُ أقطنها، عرض علي صاحبه المسن الزواج، مقابل أن يترك البيت لي من دون آجار، رفضتُ بشكل قاطع عرضه، بعد فترة أخبرتني زوجته بأن علي إخلاء الدار، بحجة أنهم سيعطون البيت لابنهم، وبعد بحث انتقلت إلى منزل آخر، أعود إلى جدرانه الصامتة بعد يوم عمل طويل، تعينني تحدياته على تجاوز الوحدة والكأبة، تذكرت بيتنا الأنيس الدافئ في الزبداني روحي فيه ما تزال معلقة، كأنه في سقفه يحنو علي، تفجر في الشوق فاتصلت بأهلي وأمي ما إن سمعت صوتي حتى عرفت محنتي فوعدتني أن تأتي من الكويت إلي وتزورني؛
خبر قدوم أمي كان كافياً لسعادتي، بدأت أتجهز لحضورها، وأفكر بما سأحكيه لها من قصص، وبما سأتناوله من يدها، كم سأحتضنها وأقبل يديها وأبكي في حضنها، وأنا على هذي الحال لأسبوعين، اتصلت بي أختي واعلمتني خبر وفاة أمي، نزل الخطب علي كالصاعقة وازدادت حالتي الصحية سوءاً، حتى زارتني إحدى قريباتي وأجبرتني على السكن عندها، عاملتني وزوجها كابنة لهم، نذهب صباحاً إلى العمل ونعود مساءً نتجاذب أطراف الحديث، والشبان يطرقون بابنا بطلب يدي للزواج وأنا أرفض، إلى أن اقنعتي إحدى قريباتي بشاب يريد أن يتزوجني وجدته رجلاً كريماً طيباً شهماً فوافقت رغم أن يده مبتورة بإصابة حرب، ومعه عشت حياة هادئة وحملتُ، لكن وفي شهري السابع وضعت ابنتي وهي بحالة صحية صعبة، أسعفها الأطباء عبر معبر باب الهوى إلى تركيا للعلاج، وعلى الطريق توفيت مرة ثانية يحترق قلبي على أجنتي؛
أجريت تسع عمليات جراحية لالتصاقات في الرحم، وعند العملية العاشرة طلبت من الأطباء أن يتوقفوا لأنني لم أعد أحتمل، لقد كُتِبَ علي ألا أُنجب وصنّفت حالتي على أنها عقم ثانوي، فكرت بزوجي فمن حقه أن يكون له بنون، ولأني لا أتحمل وجود زوجة ثانية في حياتي طلبت منه أن يتركني ويتزوج بغيري، لكنه رفض وقرر البقاء معي وعدم تركي، بقيت لأجله وأجلي أراجع الأطباء، أخبرني أحدهم أن الحل في الزرع، وهو في الداخل السوري المحرر صعب؛
أحدث نفسي بلا، “ليس صعباً، فالصعب عندي قد مضى، في رحمي وطني، يشبهني، حمله مثلي ثقيل، وأنا مثله ولادة، وسأبقى، أنجب الحياة من جديد”





