الشهادة الرابعة / سفرة الطعام الشهية تكسر خاطري
ما بين درعا التي أنحدر منها وأقطنها مع زوجي وأولادي، والغوطة التي يسكنها أهلي، شاركت مع أبناء بلدي في المظاهرات السلمية، طلابي الصغار في المدرسة سبقوني إليها، حتى بث في عقدي الرابع تلميذة لديهم، لم يكن نشاطي واضحاً مثل أخواني المعارضين للنظام منذ زمن، والمطلوبين له بسبب انخراطهم الكامل في الثورة، الأمر الذي دعاهم لتحذيري من المرور على الحواجز، ومن مغادرتي المنطقة، حينما أخبرتهم نيتي السفر إلى السويداء للعلاج، بعدما قصفت عيادة طبيبي الذي غادر بعد ذاك درعا إلى مصر، وليس في حوران غيره مختص مفاصل وأمراض رثية؛
تشجعت على الذهاب إلى هناك بسبب معرفتي أن الذي يدير السويداء حقيقة هم لجان من المدينة، وهذه اللجان لا تهتم للمطلوبين للنظام، يهمهم ألا يحمل الشخص الداخل إلى المدينة أي سلاح، وخاصة أن الكثير من أهالي المنطقة – وبعضهم مطلوبون للنظام – يذهبون بشكل متكرر إلى السويداء ويعودون دونما مشاكل؛
وبالفعل، في $2014/10/18$ ذهبت وابنة عمي رنا إلى السويداء المراجعة طبيب الرثية هناك، و لتراجع هي طبيب عيون، في طريق الذهاب لم يتعرض لنا أحد، كانت الحواجز من اللجان الشعبية، وكنت بسبب خوفي من النظام قد اخذت معي احتياطاً هوية حنان، ابنة جيراننا التي تشبهني، وضعتها في حقيبتي لأستخدمها في العبور إذا ما صادفنا حاجزاً للنظام، وهويتي حملتها من أجل شراء شريحة موبايل، وخبّأتها داخل ملابسي، أردت أيضاً خلال السفر إصلاح هاتفي المعطل، أخبرني المصلح لاحقاً أنه غير قابل للإصلاح، فحزنت على صور العائلة التي فيه، وما كنت أعلم أن ذاك خير لي؛
وفيما كنا ننتظر نتيجة التحاليل التي طلبها مني الطبيب، قررت ابنة عمي أن تفرح زوجها – المنشق عن النظام – بكروز دخان اشترته لأجله، تأخرنا قليلاً، ثم وفي الواحدة ظهراً تحرك بنا باص العودة على ذات طريق القدوم، والمفاجأة المرعبة أننا على حاجز النقل وجدنا دورية متنقلة للمخابرات الجوية التابعة للأسد، لم يكن ذلك اعتيادياً لكن وعلى ما يبدو أن خلافاتهم مع الشيخ البلعوص / رجل المقاومة في مدينة السويداء، دعاهم لإرسال حواجز مؤقتة يسمونها طيارة، كان ذاك بالقرب من قرية “الشقراوية” وما أن وقف الباص وفتح العسكري الباب، حتى بادرني وابنة عمي بطلب هوياتنا، واضح أن الحجاب على رؤوسنا لفت انتباهه، فالنساء في السويداء غالباً سفور، تقدم نحونا وعيونه على كروز الدخان في يد ابنة عمي، سألها لمن هذه، ومن أين أنتم؟
قالت: نحن من قرية اسمها “صور” في درعا.
صرخ في وجهها أنت تحملين الدخان للإرهابيين
وطلب من الجميع النزول من الحافلة الصغيرة، فتشوها كلها، كان الناس يحملون جرات غاز وأكياس مؤونة سكر ومواد غذائية، أمسك بحقيبة كتفي يتحسسها ، لاحظ علب الدواء، أخذها مني وفتشها، عثر على هويتي الأصلية داخل ظرف شريحة الهاتف التي اشتريتها، ونظر إلى نظرة لا أنساها؛
وسألني: من أنت يا مدام حنان أم سمية؟
أجبته بهلع أنا، أنا سمية
قال: بما أنك سمية، لم أعطيتني هوية حنان ؟ ولم تحملين هويتين؟
فقلت: أعطيتك الهوية عن طريق الخطأ، وكنت أحمل هوية أخرى لأن صاحبتها أعطتني هويتها لأشتري لها شريحة موبايل، وأنا أخطأت وأعطيتك هويتها بدل هويتي.
قال: حسناً، حسناً سنرى بعد قليل.
جمع هويات باقي الركاب وذهب حيث الدورية وفيها قرابة عشرة عناصر، ثم عاد يأمرني بالبقاء عندهم ويأمر السائق أن يكمل طريقه مع باقي الركاب، ناقشته ورجوته أن يخبرني عن سبب بقائي وأخبرته أنني أخطأت بالهوية نهرني لأصمت، وأنزلني قائلاً لابنة عمي: رنا الأحمد أنت أيضاً ابق.
نظرت رنا إليه ونظرت إلي أيضاً وقالت: أنا لا دخل لي.
فقال: أنتما الاثنتان ستبقيان، وأشار بيده لسائق الحافلة كي يتحرك. بكينا وانهارت أعصابنا وأخذنا نرجوه أن يتركنا، لم يعرنا أي انتباه، لم يلتفت إلينا وهو يسير إلى غرفة مجاورة ونحن نمشي ونبكي وراءه، حتى أوقفنا العساكر ببندقياتهم ووجهوها صوبنا، بقينا نبكي ونصرخ خارجاً وننظر إلى الحافلة وهي تغادر، أتى إلينا عنصر آخر وطلب منا الصعود إلى الصندوق الخلفي لأحد السيارات العسكرية وإلا سيقوم بوضعنا هو فيها، صعدنا ونحن كنا نبكي ونصرخ، وما زال لدينا أمل أنهم سيتركوننا بعد ساعة أو ساعتين، فقد فعلوا هذا مع نساء أخريات من قبل بقصد الإرهاب والتخويف، كنا نبكي ونفكر في أهلنا وأزواجنا، وما ينتظرنا من عتب ولوم بسبب تأخرنا، ومن جهة أخرى كنا خائفات من العساكر وما سيفعلونه بنا، لم يخطر في بالنا أنهم سوف يعتقلوننا، ذلك أننا لم نفعل شيئاً، وبقينا نبحث ونحن على الصندوق في وجوه الناس المارة بسياراتهم – وهم يُوقفون على الحاجز – عمن ينجدنا أنزلوا من إحدى الحافلات امرأتين كبيرتين السن من بصرى الحرير، وضعهما معنا في الصندوق، حاولتا التخفيف عنا، أتذكر كلمات إحداهن: مالكن يا بنات ما لكن وجدن الله استغربنا قوتهما، ونحن نكاد نموت هلعاً، وهما انشغلتا بنا عن حاليهما تهدئان من روعنا حتى الساعة الرابعة عصراً تقريباً، حيث أغلقوا علينا الباب وانطلقت السيارات، فانهارت أعصابنا، وصلنا إلى فرع المخابرات الجوية في السويداء، وعبثاً أحاول استذكار تلك اللحظات، أسماء المحققين، أشكالهم، المبنى، المهجع الذي كنت فيه من أين دخلت أو خرجت من معي في المهجع، أين أنا، وكل التفاصيل المتعلقة بالساعات الأولى لا أعيها من هول الصدمة التي عشتها، فقط كلمات المحقق الأخيرة “سمية الأحمد فرع فلسطين” ملقياً ملفاً بلون أزرق نيلي على الطاولة، ومحدثاً شخصاً أخر أن يكمله؛
وأنا فقدت الوعي، لم أصح إلا في المهجع على النساء المعتقلات يوقظنني، لا أتذكر وجوههن حتى إن إحداهن من قريتي – كما علمت لاحقاً – خرجت قبلي وأخبرت أهلي بما حصل لي، لكني لا اتذكرها أبداً، أتذكر بعد حين رنا ابنة عمي تواسيني، كانت تظن أنها ستبقى ولن تقاد معي إلى فرع فلسطين، وأنا مثلها اعتقدت ذلك، أتذكر وقت رحلونا كيف أغلقوا أعيننا بعصابة، ووضعوا الأصفاد في أيدينا، وضعونا في السيارة، ، كان جميع من في السيارة يبكين بصوت أنين منخفض، لا نستطيع رفع أصواتنا كيلا يضربوننا، عرفتها من صوت بكائها، ناديت “رنا”؟ فردت “سمية”، ارتفع بالنحيب صوتانا معاً، صرخ العناصر بنا وضربتني امرأة شرطية وهي تشتمني، حزنت وفرحت في نفس الوقت ، شعرت بالقهر لأن ابنة عمي ستذهب إلى فرع فلسطين وفرحت لأنها ستكون معي؛
وما أن وصلنا حتى هالني العدد، وشعرت أن نساء سوريا جميعهن في فرع فلسطين معتقلات بنات صغار في العمر، نساء حوامل نساء مرضعات، وأخريات معهن أطفال صغار ، حتى هان من هول ما رأيت عذابي، وأنا أتألم لأجلهن صبايا صغيرات جميلات في مثل عمر بناتي، بعضهن في المدرسة، وبعضهن في الجامعة، واحدة مخطوبة، وأخريات معهن أطفالهن الصغار، بدأت أعود لوعيي وأصحو من الحال الذي كنت عليه في فرع السويداء، شعرت والنساء من حولي أني لست وحدي، وبدأت أتعايش مع وضعي؛
فرع فلسطين سيء جداً، المهجع مليء بالشعر والدم والقيح والسواد، الحيطان قذرة، تكسوها طبقة لزجة من خليط مختلف من القذارات لدرجة أنني لم أستطع أن أتكئ على الحائط، الأرضية مقرفة ذات لون بني من تراكم الأوساخ، حشرات وقمل تمشي على الحيطان حشرات وفئران يُسمع صوتها في كل مكان، قذارة تقشعر لها الأبدان، ورائحته كريهة من شدة الرطوبة والعفونة، والشبيحات اللواتي في فرع فلسطين حاقدات ويعاملننا بلؤم؛
مهاجعنا تتموضع على جانبي ممر طويل بنهايته ضوء خافت، وبقيته ظلام، ونحن خلف باب مصنوع من الحديد المحكم، بالكاد نرى بعضنا، فلا نور أو تهوية لدينا، الأبواب مصنوعة من الحديد الأسود، وفيها نافذة صغيرة يعطوننا منها الطعام، وكل ثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام يسمحون لنا بالخروج تحت الشمس إلى ساحة خلف بناء السجن، يحيط بها شجر عال، والشرطيات تملأن سفرة الطعام بما لذ وطاب من الأطعمة، المكدوس والجبنة واللبنة والبيض والحمص والفلافل وغير ذلك مما يذكرني بوجبة الإفطار في بيت أهلي، أعيش مع ألم الجوع ألم الشوق والحنين، والسجانات يتعمدن مد سفرتهن وشرب الشاي الساخن وقت خروجنا، فيما كان طعامنا اليومي أرزاً أو برغلاً سيء الطبخ حباته ملتصقة أشبه بالعجين، من دون أي طعم خالياً من الدسم والملح، أو شوربة عدس تتكون فقط من الماء وقشر العدس، وفي أحيان قليلة معكرونة بريحة دبس بندورة، أو رز مع بازلاء من دون لحمة أو سمنة أو حتى توابل، يقدمون لنا الطعام بقصعة معدنية لها يدان لحملها من الجانبين، من دون ملاعق ويضعون فوقها قرابة كيسين من الخبز لأسبوع، وهو في كميته بالكاد يكفي يوماً واحداً ، باقي الأيام نأكل الخبز القاسي، نصارع به شدة جوعنا، وفي مناسبات نادرة يتكرمون علينا ببيضة مسلوقة أو خمس حبات زيتون أو مربى في أول شهر لي كدتُ أموت من جوعي لأنني بطبيعتي أكل ببطء ، ثم تدربت مع المعتقلات على عادة الأكل السريع، وهي ما تلازمني حتى الآن؛
الدخول إلى الحمام حسب الوقت وليس الحاجة، ثلاث مرات في اليوم والسجانات تقررن أوان ذلك، يُخرجننا في طابور لنستخدم الحمام على دفعات، الاستحمام وغسيل الملابس مرة أو مرتين في الأسبوع، ملابسنا اهترأت وأنا أعيد غسلها ولبسها، من حسن حظي أنني ساعة اعتقالي كنت ألبس عباءة فوق بنطال وبلوزة، ساعدني هذا على التناوب في غسل ملابسي الداخلية وارتداء العباءة حتى تجف ملابسي، ثم في المرة التالية أغسل بقية الملابس، مساعدات اليونسييف والصليب الأحمر الدولي تسرق الدنيؤون حتى على الفوط النسائية، يعطوننا علبة واحدة كل شهرين أو ثلاثة، والباقي يسرقونه الصابون والمنظفات كذلك لا نرى منها إلا القليل جداً، فلا نستطيع تنظيف أجسادنا وأشيائنا؛
الأمراض منتشرة، والبرد مستمر وقاتل اعتقلت نهاية الصيف بملابس رقيقة، ومرت علي أشهر الشتاء قاسية في المعتقل، تتضاعف آلام الروماتزم علي، وعلى الأرض الرطبة التي نجلس عليها، كنت أحشر نفسي بين النساء، علّ نفسهن بعددهن الكبير يعطيني بعض الدفء، ويخفف من آلام مفاصلي، وكل ذلك هين بالقياس مع ما يحصل في غرف التحقيق، والخوف لا يفارقنا ونحن في المهاجع ننتظر النداء علينا بأرقامنا، نشعر بالموت يقترب، ونحن نفكر بما سيفعلونه بنا، وما الذي ينتظرنا ؟ الصعق بالكهرباء ؟ الحرق؟ الاغتصاب؟ القتل؟ وكلما عادت إحدانا نجد عليها أثراً من ذلك؛
وأنا كي أخلص نفسي منهم، اعتمدت حيلة التظاهر بأمراض معدية ومنها الجرب، كلما نادوا على رقمي هرولت مرعوبة أدوس من دون قصد على أجساد المعتقلات، وفي كل مرة يكرر علي المحقق ذات الأسئلة بخصوص حياتي الخاصة وتفاصيلها؟ ما اسمك؟، ما عمرك؟ ما شهادتك؟ ما اسم أبيك ؟ ما عمره؟ ما شهادته؟ من أمك؟ ما عمرها؟ ما عملها ؟ من أين أنتم؟ أين تعيشون؟ أين تعملون؟ من زوجك وما شهادته وما عمره؟ كل التفاصيل عني وعن أهلي عن زوجي وعن أهله؟ ويسألون أكثر عن المطلوبين لهم من منطقتنا؟ وعلي أن أعرف كل شيء وأجيبهم كيلا يمعنوا في إيذائي، مجرد التأتأة تعرضني للضرب الشديد من الخلف، ولا أعرف من يضربني وكم عددهم من خلفي، ففي معظم الأحيان تكون عيناي معصوبتين، لا أرى من يسألني، المحققون على اختلافهم يسألون الأسئلة نفسها ولكل منهم طريقته الخاصة بالسؤال والتعذيب، يقاطعون الأجوبة في الملف وبالتعذيب حتى الموت ينتزعون الاعترافات، تعمدت استباق ذلك في إجابتي على كل ما يسألون، حتى ما لا أعرفه، أعطيهم الجواب الذي يريدون؛
كنت أحضر إجاباتي بشكل جيد، يسعفني في ذلك ما كنت أسمعه من إخوتي الذين عاشوا التجربة، ومن المعتقلات اللواتي كن معي في المهجع، يروين ما جرى معهن، كنت أسألهن عن كل التفاصيل لأبني أجوبتي، وأخلص نفسي، وأنا في الحقيقة لم أفعل شيئاً ضدهم، كنت أتحاشى ذكر الله أمامهم، كيلا أتعرض لمصير “أم كاعود” امرأة من الميدان حدثنني المعتقلات أنهم قتلوها تحت التعذيب فقط لأنها تذمرت من أسألتهم وقالت لهم “الله” أكبر عليكم” كلمة ثورة أو ثوار كافية لتتعرض المعتقلة لذات المصير، نستخدم في الأجوبة كلماتهم “أحداث، أزمة مسلحين أو إرهابيين جماعات وفصائل مسلحة، اشتباكات عصابات” كنت أركز جيداً وأحضر أجوبتي جيداً وهم يكتفون بضربي وإهانتي وشتمي، أتذكر في فرع فلسطين المحقق “حيدرة نعمان” لا أنساه بسبب ضربه لي، وبسبب ما شهدته أمامي، لو مسكته اليوم لاقتلعت حنجرته بأسناني، شهدته يحقق مع امرأة من سهل الغاب اسمها “سهيلة علوان” يتكلم معها بلغة عامية علوية، يلقيها على الأرض، يدعسها بحذائه العسكري لتفقد الوعي ثم يجرها العناصر من تحت قدميه، وأنا أرتجف بانتظار دوري في التحقيق، سألني عن ضباط كانوا أصدقاء لأخي في الغوطة؟ أجبته صادقة أني لا أعرف عنهم شيئاً، وهو يكرر صفع وجهي بقوة، ويضرب وجهي مرة بالحائط ومرة بالخزانة، وحينما أبكي يزعجه صوتي فيضربني أكثر حتى أسكت، بقيت أثار ضرباته على وجهي وقتاً طويلاً، مثلما بقيت آثار عصيهم ورفسات أقدامهم على ظهري ورأسي، بقيت في ذاكرتي مؤلمة أكثر الإهانة، في تحرشهم وكلماتهم النابية التي ينادونني ويصفونني بها، في ضرباتهم لي ساخرين على الصدر والمؤخرة، ربما تظاهري بالمرض المعدي وظهور انتفاخات في جسدي ساعدني في النجاة من ممارسات أفظع ، أتذكر فتاة حققوا معها أمامي، مع كل جواب يكشف المحقق حيدرة شيئاً من جسدها، ويشتمها بألفاظ بذيئة، وما أن دفعته عنها حتى نادى على العناصر ليحملوها إليه، فعلوها كأنهم كلاب مسعورة؛
كل هذا وحظنا كان أفضل من غيرنا، فنحن معتقلات في قسم يسمونه “سجن المهام” في الطابق السفلي الأقسام الأخرى جميعها تحت الأرض، كلما كانت التهمة أكبر نزل السجن إلى طابق أدنى، سجن المهام مخصص للمعتقلين الذين لديهم أقارب مطلوبون، أو المتهمات بالمشاركة في الإغاثة الإنسانية؛
بعد قرابة الشهر من اعتقالي في فرع فلسطين مع ابنة عمي، أخذوني وحيدة إلى فرع كفرسوسة، وبقيت رنا لديهم،
من العتمة في فلسطين – ولا أدري لما يسمون الفرع كذلك – إلى الضوء المسلط على عيوننا لحرماننا من النوم في كفرسوسة، حيث من طرق التعذيب هناك عدم السماح بالنوم، الكاميرات تراقبنا وكل من تنام يدخلون عليها ليسحبوها من أقدامها، وحينما أشعر بالنعاس يغلبني، كنت أضع رأسي على أرجل زميلتي بحجة أنها تنظف شعري من القمل، كانت تغطي بشعري عيوني لأغفو نصف ساعة فقط، وعلى هذي الحال بقيت في فرع كفرسوسة عشرة أيام تقريباً، نقلوني بعدها إلى فرع الجوية في المزة، وبقيت لديهم شهراً ونصف، لا تختلف المعاناة فيها عما سبقها، بنظرهم نحن مجرد حشرات وطالما سألت نفسي عن سبب حقدهم علينا، امرأة ربة منزل مثلي لم تؤذهم ؟ ولم تحمل تجاههم من قبل أياً من مشاعر الكراهية، أيدت الثورة بشكل سلمي، فقط بلساني، ولم أكن من الفاعلات أو القياديات فيها، ومثلي معظم المعتقلات، فلماذا بكل هذا الحقد يعاملوننا، من أين أتوا بكل هذا السواد في قلوبهم؛
عائلتي كانت أكبر همي الذي أفكر به وأنا في المعتقل، أولادي وبناتي، أمي وأبي وأخوتي، كنت أسأل نفسي فيم يفكرون به عني، وكيف يتخيلونني، كيف سينظرون لي وهم يعرفون ما تتعرض له المعتقلات من تحرش واغتصاب ؟ أفكر بزوجي وأتوقع أنه يلومني على ذهابي للطبيب، لا اكترث كثيراً وكل ما أرجوه أن يرعى أولادي في غيابي، يعصرني قلبي على بناتي، كيف هم بدوني، مريم الصغيرة المدللة تركتها في الصف السابع، كيف هو شعورها، وهي تنضج في مراهقتها بعيداً عني ابني الأصغر في نعومة أظافره، أنادي عليه مع مريم في نومي، صديقاتي المعتقلات بتن يعرفن أسماء أولادي من هذياني بهم وأنا نائمة، ألوم نفسي أني أعرضهم للحزن والحرمان؛
في المعتقل نواسي بعضاً، تنسى كل منا جراحها حينما تضعف أو تنهار إحدانا، ليلتف الجميع حولها، بقوة وثقة تظهر لديهن لدعمها، ثم ومن بين ذات البنات بعد حين تتعب معتقلة أخرى، وتحمل الأخريات واجب الاهتمام بها فالألم واحد، وفيما في كل مهجع ينعم الله علينا ببطلة تحمل الشطر الأكبر في التخفيف عنا، يزرع النظام جاسوسة، أسميناها في معتقلنا “الجاجة” وكانوا ينقلوها بين مهجع وآخر لتنقل أخبارنا إلى الضباط
“أم النور” من حماة عزيزة على قلبي، تتفهم لوعتي على أهلي، وخوفي وألمي الرطوبة تضاعف وجع الروماتيزم على قدمي وركبي التي لم أعد أستطيع ثنيها، فأسند رجلي إلى حضن أم النور لضيق المكان وبرودة الأرض، وهي تمسدها بحنان؛
كنا نلقبها “أم زيوس” امرأة في فرع المخابرات الجوية برتبة ضابط، تتعامل معنا بطريقة أفضل من غيرها ، نادتني يوماً مع سارة ونور، معتقلتين من الرقة بسبب اتهام أفراد من عائلتيهما بالانتماء لداعش ارتعبت لظني أنها تسوقني للإعدام الميداني، وتفاجأت بأننا في الأمانات، تسلمنا مع خمس نساء أخريات أوراقاً بإخلاء سبيلنا، عرفت منها تاريخ اليوم 12 شباط 2016، ومن فوق باب الفرع ركبت مع سارة ونور تكسي صفراء، ونزلت في باب مصلى أقصد طريق الباصات إلى درعا، وبثيابي الصيفية المهترئة ومظهري الغريب ركبت حافلة متوجهةً لبلدة الصنمين، لأنزل على الطريق العام وأتابع – كما كنت أخطط – بسيارة توصلني إلى أهلي، وقبل أن نصعد الميكرو باص أخذوا هويات جميع الركاب وسجلوا بياناتهم، وتركوها مع السائق ليمررها كما هي العادة على الحواجز الأمنية، ومرة ثانية على حاجز اسمه جسر صحنايا، لم يكن خوفي من تكرار اعتقالي مبالغة، فالسائق الذي نزل بالهويات إليهم، عاد ومعه عنصر منهم، ناداني باسمي أن انزلي، أنت مطلوبة، أجبته معي إخلاء سبيل، قال اصمتي، وأمر السائق بالذهاب، وأنا عدت كما في المرة الأولى أجهش بالبكاء، رفعت بالصراخ صوتي حتى قدم الضابط من حيث كان منشغلاً في جرّ شاب متخلف عن الخدمة العسكرية إلى سيارة اقتادته وسط توسلات أمه إليهم أن يتركوه دونما جدوى، ناولت الضابط ورقة إخلاء السبيل، وأنا أشرح له أن زملاءه أفرجوا عني ولم أعد مطلوبة، وأرجوه أن يتركني من أجل أولادي، نظر إلي شامتاً متعالياً، ثم مزق الورقة وقال هذه اشربي ميتها، شهر العناصر بوجهي السلاح ووضعوني في صندوق السيارة الخلفي، تلاشت من جديد فرحتي، تلاشت من جديد حريتي، تلاشت كرامتي، وبدأت من ههنا أدرك ألا أمان لنا معهم في وطن واحد؛
قادوني إلى الشرطة العسكرية، والسجن فيها على سوئه يبقى أفضل من سجون الفروع الأمنية، بعد ثلاثة أيام من مكوثي فيها طلب الضابط من المساعد أن يبحث عن رقمي، بادرت بلهفة أني أحفظه فنظر في الضابط بازدراء وهو يهم بضربي صارخاً في وجهي اخرسي، وتابع أمره للمساعد طلع رقمها مشان نعرف وين نرميها؟ وإلى ذات المهجع في فرع الجوية أعادوني دونما تحقيق الدهشة ومشاعر الإحباط علت وجوه صديقاتي المعتقلات، شعرنا أننا سنخلد هنا، حتى وإن خرجنا فلا ضمان أنهم لن يعتقلونا من جديد، القهر أكل روحي وأنا أفكر أن أي سبب تافه أو بدون سبب يستطيعون سلبنا حريتنا وجلبنا إلى الجحيم، وما من معين إلا الله الذي استجاب دعائي فنادوا علي بعد خمسة أيام للإفراج، ومعي هذه المرة أم النور، صديقتي التي أحببتها، وكما هي في المعتقل بدت معنا ونحن نغادره ما تركتنا أبداً، وأخذتني مع ناجية أخرى من باب الهوى إلى بيت أختها، وهي تقول تعالي ارتاحي هناك وغيري ثيابك لنفكر في الطريق الآمن إلى أهلك؛
في بيت أختها لا أستطيع وصف سعادتهما خلال اللقاء، عناق طويل وبكاء، فرح وأسى، وكل هذا لم يشغلهما عن الاعتناء بنا، حمام نظيف وشاي ساخن مثل الذي كانت السجانات تشربنه أمامنا، وطعام بسيط لذيذ نظيف من ثيابها أعطتني ما يدفئني، ووسط كل هذا ألح عليهما أن يساعدوني في طريقة لأصل بها أهلي، فأخبروني بعد سؤال أن الطريق إلى بيتي في درعا صعب، والأفضل أن أتوجه إلى إخوتي في الغوطة من خلال أنفاق حفرها الثوار تحت الأرض، رائحة القهوة التي صنعتها ومذاقها الطيب لم يؤخرا إلحاحي في المغادرة، طلبتا مني أن أبقي فقلت لهما أن قلبي لا يحتمل، وأم النور كما هي بشيمتها لا تتركني ههنا أيضاً، ففي التكسي الذي طلبته من أجلي، رافقتني في مسالك فرعية إلى أقرب نقطة على مدخل النفق في القابون أنزلتني هناك وأكملت راجلةً طريقي، كلما التفت خلفي أجدها ما تزال على الطريق ترقبني، وتشير لي بيدها مبتسمةً أن اسرعي؛
في مدخل النفق لاقاني مجموعة من الشبان الثوار، بادروني بالاستفسار عن شخصيتي، فأخبرتهم أني معتقلة وللتو خرجت، علت بالتكبير أصواتهم وهم يتسابقون في إكرامي، تعرفوا على إخوتي وأخبروني أنهم في عربين، وهي منطقة اشتباك والوصول إليها صعب، أخذوني إلى مكتب لهم يهتفون من أجلي ويرتبون اتصالاً مع أخي من أجل ملاقاتي، مجموعة منهم نزلت معي النفق، البنادق هذه المرة لحمايتي، وعيون الرجال على شدتها ههنا مؤنسة وجميلة تحنو علي وتغض الطرف عني في نهاية النفق لاقاني أخي يصرخ فرحاً ودهشةً “والله هذه سمية ، نعم هي سمية، سمية حية، لك الحمد يا ربي” حضنني وبكينا سويةً لمدة تقارب الساعة، كنت على سعادتي مستغربة هيستريا الفرح البادية على أخي، يكاد ذو الثقل والكياسة أن يرقص وهو يردد، أنت حيّة، لست ميتة ركبنا السيارة إلى أهلي وقبل أن نصل بدأ يصرخ منادياً على أبي وأمي، ويخبرهم أنني وصلت إليهم، بعثوا صورتي إلى بناتي وباقي إخوتي ليخبروهم أني نجوت، وليخبروني – فيما بعد – أن أخوتي باعوا سياراتهم وبعض أملاكهم من أجل الإفراج عني، وأن ضابط المخابرات بعد أن استلم عبر وسيط الرشوة منهم، أخبرهم أني وابنة عمي متنا بأزمة كلوية، حاول إخوتي – دونما نتيجة – الحصول على جثتي مقابل الملايين التي أخذوها منهم، لم يخبروا والدي وأخواتي بخبر وفاتي خوفاً على صحتهم، أخبروا فقط زوجي الذي انشغل بتأهيل أولادي ليعتادوا على حياتهم من دوني، كلما سألوه عني طلب منهم نسياني، وحين عدت مرة ثانية من جحيم العالم الآخر إلى هذه الحياة، فراق مستمر جديد لم أرهم فيه لسبع سنين، فكل منا في منطقة محاصرة مقطعة الأوصال عن المنطقة الثانية، ثلاث سنوات في الغوطة التي هجرت منها مع إخوتي بالباصات الخضر بعدما قصفنا النظام مرة ثانية بالكيمياوي، وفرض علينا تحت الإذعان اتفاقاً بمغادرتها إلى إدلب، ثم أربع سنوات في إدلب، أنتظر ساعة رؤيتهم، ابنتي التي تركتها طفلة في عمر اثنتي عشر عاماً، أضحت الآن صبية وعمرها تسعة عشر عاماً، وهم جديد في كيفية إيصالها مع ابني للم شملنا في إدلب، الطريق بين المنطقتين خطر، وهرباً من خطر أكبر كان لابد من المجازفة، فابني ما أن شب وكبر حتى دبت في وجدانه حماسة، جعلته مطلوباً للأمن العسكري، ودرعا لم تعد آمنة كما هي من قبل، وفيما تقطعت أنفاسي وهما على طريق الموت ينشدان الحياة، ينشدان مع أمهم العيش بسلام، وصلا إلي في يوم سعادتي فيه لم تك أقل من سعادتي بيوم نجاتي من المعتقل؛
مع ما في حياتنا الجديدة من بعض استقرار وسعادة، لا زلت آثار ذكريات السجن كابوساً لا يغادرني كيف يغادرني وهناك تركت رنا، توأم روحي، ألوم نفسي أنها وافقتني ومن أجل علاجي رافقتني إلى السويداء، رافقتني عند دخولي المعتقل، ولم ترافقني عند مغادرتي عمرها آنذاك سبعة وعشرون عاماً، احترق في المعتقل قلبها وهي تبكي على أطفالها، غلبتها اللوعة والقلق عليهم حتى باتت تقضي كل وقتها في زاوية المهجع ، كلما اقتربنا منها لا نسمع إلا نحيباً خافتاً في صوتها، وهمهمات بأسماء ولديها الصغار وابنتها ذات الأربعة أعوام، وفوق كل هذا آلام مرضية تشتد عليها بسبب حالة استسقاء الكلى التي تعاني منها منذ فترة، لم يفلح رجاؤنا للسجانين بأن يسمحوا لها بالذهاب إلى التواليت، وحصر البول يسبب لها ارتفاعاً بالحرارة ورجفاناً وحرقة، في كل مرة تصرخ رنا من الألم أتوسلهم لإخراجها، والسجان ألطف كلمة يجيب بها علي “فهمنا أغلقي الشاروقة” مجرد قضاء الحاجة يضنون به علينا، والحرمان من الطعام والشراب أهون، وأنا إذ استمع بعد نجاتي لمحاضرات حقوق الإنسان، أشعر بالانفصام عن هذا العالم، وأنا أتذكر رنا، عذبوها بالحرمان من أبسط الاحتياجات الطبيعية الضرورية لبقاء المخلوقات على قيد الحياة، بشراً كانوا أم حيوانات، اشتد المرض عليها وباتت بيننا مثل خرقة لا تقوى على النهوض، فأخذوها بعد أيام من هذي الحال إلى ما تسمى الرعاية، وعادت إلينا فقط بمسكن دونما علاج، ودونما إذن يسمح لها باستخدام التواليت وقتما تحتاج وخارج الأوقات الثلاثة المحددة بزمن، وعلى هذا الحال تركتها في فرع فلسطين يوم رحلوني إلى سجن كفرسوسة، ولم تفلح محاولات العائلة في الإفراج عنها مصيرها كما هو ما يزال حتى الآن مجهولا ، وما تغير أن صغارها قد بلغوا سن الفتوة بعيداً عنها، تحفر ذكراها في وجدانهم جرحاً عميقاً يلتهب ويتقيح مع ما يسمعون من قصص التعذيب والاغتصاب في السجون، يتحول الحقد الدفين إلى نزعة انتقام لا يعالج آثارها إلا المحاسبة؛
كيف أنسى ومن خرجت من المعتقل وحتى الآن بين كل حين وحين يطرق بابي من يسأل من العائلات عن ابنة لهم ما تزال مفقودة، الصور التي يروني إياها ليست ممن كنّ معي، هول العدد يذهلني في استنتاج أن حجم الواقع أكبر من التصور، يوماً ما فاجأني رجل بصورة “مرام” يسأل عنها ، قلت نعم هي مرام، بنت الواحد وعشرون عاماً، اعتقلوها فقط لأن زوجها انشق عن جيش النظام، وعذبوها بشكل مضاعف ليعرفوا أخباره، ثم وضعوها في زنزانة منفردة تشبه التواليت، لا تغادرها إلا لجلسات التحقيق والتعذيب، يقدمون لها فيها كل يوم كسرة من الخبز، وتحت شدة التعذيب أعطتهم ما يريدون من معلومات، اعترفت لهم بأن زوجها يقاتل مع جبهة النصرة في الغوطة، ها هو ذا زوجها يسألني عنها، خشونة المقاتل في جسده، وقوة عينيه لم يمنعاه من البكاء حينما أخبرته أنها كانت معي، يكرر إظهار صورها على موبايله ويكرر أسئلته أهذه هي؟ هل هي حية؟ هل عذبوها ؟ هل اغتصبوها ؟ كيف كانت أحوالها؟ صحتها؟ نفسيتها؟ وبين كل حين وحين يقصدني بذات الأسئلة، يكتم في عيون كالصقر دموعه، وأحياناً كطفل يجهش بالبكاء ، مستجدياً المزيد من أخبارها؟ كيف أنسى وسفرة الطعام الشهية في كل مرة تذكرني بهم، كيف أنسى والروائح الكريهة ما تزال تطوف حول أنفي، كأني ما زلت هناك، في حياة الموت، أو موت الحياة، كيف أنسى وما يزال من أهلي وصحبي كثيرون مفقودون لديهم أخي حامد، بعدما سمحوا لزوجته بزيارته مرتين عام 2013 ، عادت وانقطعت أخباره عنا، هناك من يقول أنهم أعدموه في 2017 ، وفيما وجدنا صورة ابن عمي رامي بين صور قيصر لم نعثر لأخي على أثر، كذلك الحال مع ابن عمي “جمال” اعتقلوه في حرم جامعته بمنطقة البرامكة، عمي “عيد” الرجل الرشيد، كبير في السن، يقال أنه مات تحت التعذيب، بسام رغم أنه لم يبد موقفاً ضدهم وبقي في عمله مهندساً بالري اعتقلوه وأخفوه، وحتى علي الذي قبل بالمصالحة معهم في درعا، بعد التسوية بفترة وجيزة اعتقلوه وأعدموه، كيف أنسى ونحن عائلة تتعرض للإبادة، نعم هي إبادة ويقتلوننا لأننا سنة.





