الشهادة السادسة / قال لي لا تحلفي بالله، احلفي بشيءٍ آخر
وطني في بيت مهجور في دمعة مقهور، في تنهيدة حائر وقول مأثور الثائر ؛
أنا علا من ريف دمشق أنحدر ، وهذه ابنتي بجواري في الصف الرابع، لم تر أباها من قبل، فيوم اعتقاله كانت جنيناً في بطني؛
قبل سنين، بزغت للحرية في بلادي شمس وصل إلى قطنا حماها، وإخوتي الأربعة كما هم دوماً في طليعة شباب البلدة بمظاهراتهم السلمية يهتفون، أشعلوا في روحي حماسةً لا تقاوم، فنزلت معهم وقد أخفيت وجهي، فلا يعرفني أحد؛
ما خطر لي أن جيراننا من العلوية في مساكنهم اللصيقة بحاراتنا، يتحولون في يوم إلى أداة قتلنا، يطلقون النار على المتظاهرين، ويلاحقونهم، وفي كل يوم خبر لشهيد وأكثر من معتقل، لزوجي وإخوتي الأربعة بينهم نصيب بعضهم مات وبعضهم عاد، وبعضهم ما زلنا نترقب عنهم خبراً ؛
حتى إذا ما اشتدت القبضة الأمنية علينا عام 2013، وباتت قطنا تنام على قصف القذائف، وتفيق على حملات مداهمة واعتقال واسعة، غادر معظم الشباب البلدة إلى خان الشيح المحررة من النظام، وبقيت مع أمي وأختي كباقي النساء في بيوتنا، نترقب بقلق بين حين وحين أحد إخواني يتسلسل ساعة كل كم يوم ليطمئن على أحوالنا؛
حتى داهموا ذات يوم منزلنا، خلعوا علينا الباب، وبنادقهم صوبنا موجهة، يفتشون المنزل بقلب كل الأغراض، بدايةً أخذوا منا موبايلاتنا وهوياتنا، وعندما انتهوا ضربوا أمي ورموها على الأرض، ثم صرخوا بي وبأخواتي كي نذهب معهم، رجوتهم ألا يفعلوا فانهالوا عليّ بالشتيمة يجرونني رجوتهم أن نغير ملابسنا أجاب الضابط الملعون ساخراً: تعالوا كما أنتم أفضل، ثم وبعد رجاء سمح لنا بلبس ثياب الخروج أمامه، رفض أن يغادر الغرفة أو يغلق بابها، لم ندر كيف لبسنا ثياباً فوق ما علينا لنستر أجسادنا؛
كانت المرة الأولى التي يعتقلون فيها نساءً من بلدتنا، وإلى المفرزة أخذوني وأخواتي، رأيتُهم أول ما دخلت ينهالون بأحذيتهم العسكرية على شاب صغير يضربونه، وجهه وجسده الصغير المضرج بالدماء ما يزال حاضراً في ذاكرتي وضعوني في أحد مكاتبهم والتلفاز يعرض المظاهرات في الشوارع، كانوا يتفحصون الوجوه ليستدلوا على من يعرفون، ويكررون السب والشتيمة لمن يسمونهم مندسين؛
وفيما كنت على هذه الحال أرتعد على مصيري وأخاف أكثر على أختي الصغرى، لم يتركوها معي وهي ما تزال طفلة، ساقوني إلى منفردة، ثم وبعد قليل أحضروني سحلاً ، ألقى بي الضابط على أرض مكتبه، ثم أحضروا أختي، وانهال علي الضابط رفساً وهو يسأل “من هذا الذي يهددنا بتفجير المفرزة، أنت عشيقته أم…….. أصورك وأنت تعالي لينبسط عليك”
يكرر السؤال وأنا لا أفهم ما يقصد حتى بدأ يقرأ من موبايلي رسائل تهديد من الثوار يحذرونهم بأنهم سيهاجمون المفرزة إذا لم يطلقوا سراحنا؛
أقول له أنا لا دخل لي، وهو ينهال ضرباً علي بحذائه تارة، وبالأخضر الإبراهيمي تارةً، دونما رحمة أو شفقة، وأختاي تبكيان في عجزهما عن فعل شيء لأجلي، ثم أمر العناصر أن يكملوا هم ضربي، وأخذ أختي إلى غرفة أخرى، ثم عاد يستجوبني وعظامي كانت قد تكسرت من شدة الضرب؛
يسألني “ما علاقتك بالإرهابيين”
أجيب “لا علاقة لي، أنا موظفة في الدولة وأعمل لأؤمن لقمة عيشي”
يضربني ويكرر الاتهام “أنت تساعدينهم، أنت وأخواتك تهربن العساكر عبر البساتين، من فروا من حاجزنا أمس أين خبأتموهم؟”
أنكرت وأنا واثقة من جوابي، فلم أفعل شيئاً مما يقول، كرر علي الأسئلة بصيغة أخرى فهمت منها أنه يحاول استدراجي، فهمت بعد قليل أنه يحاول إغوائي، قررت أن أكون قوية، نظرت إليه بقرف واحتقار وبدأت أصرخ بصوت عالٍ أن ما يقوله كذب، كذب، أعادني إلى المنفردة، ثم في اليوم التالي طلبني إلى مكتبه، أجلسني أمام طاولته وقال “أريدك معي”
قلت “لم أفهم، ما تقصد”
قال: “أطلق سراحك مع أخواتك، وأمدك بالغاز والخبز والمازوت وما تحتاجين إليه، مقابل أن تأتي إلي مرةً أو اثنتين في الأسبوع نتسامر سوية، وتخبريني عن أسماء الإرهابين الموجودين في قطنا”
نظرت إليه بشزر دون أن أجيبه بأية كلمة، فهم جوابي فانهال علي كالمجنون ضرباً، وأنا أتلقى صفعاته أفكر بأختي، أتساءل في نفسي “هل يتعرضن لذات المعاملة؟” أفكر أني الأقوى بينهما، فالكبرى بسيطة والصغرى ضعيفة، أجيبه بأن يدعني أطمئن عليهما قبل أن أجيبه على ما يريد، أخذني إليهما وتركني معهما قائلاً “خليكي عاقلة مشان ما يصير لهن شي”
كنتُ على استعداد أن أتحمل كل أنواع العذاب على ألا يمسا بسوء، أخذوا أقوال أختي الكبرى أمامي، تسكن مع زوجها في حي برزة بمدينة دمشق، ولا علاقة لها بأي نشاط، كانت في زيارة لنا ساعة داهموا منزلنا أختي الصغرى طفلة فتية لا تعرف كيف تجيب، كلما سألها تتلعثم من خوفها بالكلام، وأنا أركع أمامهم وأقول اتركوها فهي مريضة بالصرع، لم يكن قولي صحيحاً، أقول ذلك لأنجيها، أرجوهم أن يحققوا معي بدلاً عنها؛
استدار المحقق نحوي يقول احكي لنا عن إخوانك الشباب؟ أين هم؟
قلت له: في لبنان.
سخر مني وقال: أي لبنان؟ التحتا؟ يقصد خان الشيح؛
قلت: لا الفوقا
نهرني وقال لي: أنت تكذبين علينا، ونحن نعرف أين هم.
قلت “أنا موظفة لدى الدولة، ولا علاقة لي بإخواني ولا بعملهم، وإن كان سلوكهم غير صحيح، فهم مثل شباب هذه الأيام لا يسمعون نصائح أهلهم، فما ذنبي أنا وأختاي بذلك”
غادر المحقق الغرفة وعاد ومعه الضابط يقول أنت ما رح تفهمي وأمرهم أن يعيدوني إلى المنفردة، في اليوم التالي أعادوا التحقيق معي، استغربت أنهم يسألونني عن بعض ما قلت من حديث قديم لا يعلمه إلا أهلي وجيراني، مع تكرار لذات الأسئلة القديمة بذات الإهانة والشتيمة والضرب المبرح أشد من قبل، تكسرت على إثره أسناني، ومع كل يوم جديد جلسات تحقيق وتعذيب جديدة، أعود بعدها إلى المنفردة ولا مُسكن لآلامي أو دواء لجروحي المتقيحة، والطعام حبة بطاطا مسلوقة لكنها نيئة وكم زيتونة أو برغل وبصل؛
يستخدمون مع التعذيب حرباً نفسية، فينسجون على بعض المعلومات ادعاءات كاذبة لتهديدنا وتخويفنا ، ذكروا مرةً أن أخي رمى المسامير على الطريق الموصل لساحة التظاهر كيلا تصل دورياتهم إليه، وأنه ساعد أحد جنودهم على الفرار، وأن بقية إخوتي يشاركون بالمظاهرات، وفيما لم يثبتوا أي شيء علي وأختي، بقيت متماسكة أتحداهم، حتى اعتقدت يوماً أنهم يبحثون عن صيغة ليتخلصوا فيها من عبئنا، فالثوار صنعوا حالة من توازن الرعب معهم، علمت لما خرجت أنهم تسللوا أكثر من مرة إلى المنطقة، وأنهم صعدوا العمليات فيها، وأن عناصر المفرزة تعرضوا لأكثر من هجوم، وأن أحد الشبيحة خطف كرد على اعتقالنا ، لم أكن حتى خروجي أعرف لماذا أوقف الضابط جلسات تعذيبي، وبدا كأنه يبحث عن صفقة يعقدها معي لإخراجي وأخواتي؛
حتى أن العميد أتى إلى المفرزة، استدعانا لمكتب الضابط يتصنع لهجة أبوية، أسمعنا حديثه معهم بأننا لا علاقة لنا وأننا سنعمل مع الدولة وإذا تعاونا معهم فسيطلقون سراحنا
ثم التفت إلى أختي الصغرى يسألها،
قلت “اتركها وأنا معكم أفعل كل ما تريدون”
غمز العميد الضابط بنظرة خبيثة وغادر ، وفي اليوم التالي أحضرني المحقق إلى غرفته، وقال لي أن كل الأمور تحت سيطرتهم، وأنهم يعرفون كل الشبان وتجمعاتهم وتحركاتهم، وستتم محاسبتهم في الوقت المناسب، طلب مني أن أسلّمه ثلاثة شبان مطلوبين، فوافقت؟
قال احلفي حلفت له بالله بأنني سأفعل كل ما يريد؛
ضحك ساخراً، وقال إنه لا يؤمن بالله حتى يصدق حلفاني به،
أشار إلى فرجي وهو يقول “احلفي بـ …” اقترب وهو يقول احلفي به حتى أتركك وأخواتك،
كرر ذلك بلفظه البذيء، ولم يتركني حتى حلفت كما يريد؛
أجلسني على الكنبة وأخرج تعهداً بأني سأعمل معهم، وأبلغني أن علي أن أمر لعنده كل أسبوع مرتين، وأن أتصل به من أجل المعلومات التي طلبها عن الشباب، وأنه يعرف كيف يصل لي وقتما يريد، ثم طلب إحضار أختي الاثنتين، وأخرج أوراقاً بيضاء بصمنا نحن الثلاثة عليها، وخرجنا؛
من على باب المفرزة مسكت بأختي أجرهما إلى المنزل مسرعةً كطير جريح، وصلت بقدمين حافيتين وجسد متقرح هزيل، وما إن حضنتني أمي على الباب حتى انهارت أعصابي، وقعدت في الفراش عدة أيام، لا أدري هل السبب أني أحتاج أن أظل في حضنها لضعفي، وقد حملت في سجني هم أختي أم هي الجروح في جسدي على انعدام الدواء وقلة الغذاء أوقعتني أم هو تفكيري فيما مضى ألمحه في نظرات الجارات وهن يزرنني، عيونهن الحائرة بين الشك والشفقة تلاحقني، وأنا بين سعدي وبؤسي أحدث نفسي أني تارة أعتز بها فأسلمهم جسدي لأنقذ أختي و تارة أخرى ألومها فقد جاريتهم بحديث يُغضب ربي، وبين هذا وذاك قلق وهم كبيرين فيما طلبوه مني، المحقق والضابط والعميد، استسلمت في تفكيري إلى نتيجة، ما من طريقة أستطيع بها أن أخدعهم، وما من حل أمامي إلا الرحيل، نعم لقد آن أوان الرحيل؛
لم يتوقف المحقق من ملاحقتي باتصالاته، وهو يطالبني بوعدي وأنا استمهله وأسايره لحين ترتيب مغادرتي مع وأمي وأختي، وخلال أيام قليلة رتب إخوتي طريق وصولنا إليهم في خان الشيح، كم كان اللقاء سعيداً وهم يجبرون كسري بمشاعر فخرهم بي، يحاولون إسعادي ومداواة جراحي؛
الأوغاد في المفرزة ما أن وصلهم خبر مغادرتي حتى داهموا منزلنا وحرقوه بكل ما فيه، ورغم حزني على كدّ عمرنا وذكرياتنا، كان الوقع هيناً أمام اعتقالهم أختي من منزلها في حي برزة بدمشق، ما كنا نظن أنهم يصلون إليها هناك، وزوجها مهادن لهم، عشرون يوماً أعيشها في شقاء ولوعة، كيف لا وأنا أعرف خستهم ووحشيتهم، دفعت مع إخوتي كل ما نملك لإنقاذها ، فأفرجوا عنها محطمة جسدياً ونفسياً، ترتعب من أي رجل بما فيهم زوجها وأولادها، حتى سافروا معها إلى لبنان من أجل علاجها
ثلاثة أعوام في خان الشيح بأقصى الجنوب، ومنها إلى الشمال بالباصات الخضر، لا يترك لنا الأسد مكاناً آمناً في هذا الوطن، كأنها نكبة جديدة أعيشها مع من تبقى من أهلي، ومع رجل طيب من أصدقاء أخي تزوجني، يعين بعضنا بعضاً على صعوبات المعيشة، ومرارة فقدان الأحبة، ففي خان الشيح استشهد أحد إخوتي، وأصيب آخر منهم إصابات بليغة تعيق حتى الآن حركته، استشهد من قبل زوجي الأول، واعتقل أخي، تدهورت صحتي، خسرنا بيتنا وكل ما نملك حتى بتنا عائلة منكوبة





